إبراهيم حميدي 

تبذل موسكو جهوداً مكثفة للحفاظ على تفاهماتها مع أنقرة من جهة، وتحالفاتها مع طهران ودمشق من جهة ثانية، لإبقاء اتفاق وقف العمليات القتالية على قيد الحياة وعقد مفاوضات آستانة في ٢٣ الشهر الجاري، كي تكون «محطة موقتة» قبل استئناف مفاوضات السلام في جنيف الشهر المقبل برعاية الأمم المتحدة لدى تسلم إدارة الرئيس دونالد ترامب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة.

ويشبه تزامن خفض الجيش الروسي قواته في سورية مع الإعداد لمفاوضات آستانة إعلان الرئيس فلاديمير بوتين في آذار (مارس) الماضي إعادة انتشار القوات الروسية في سورية عشية استئناف مفاوضات السلام في جنيف وقتذاك، لتذكير الحلفاء والخصوم بالأوراق التي تملكها موسكو وسط أنباء عن احتمال قيام الرئيس بشار الأسد بزيارة عاجلة إلى موسكو تشبه زيارة نهاية العام ٢٠١٥.

التفاهمات بين موسكو وأنقرة شملت وقف العمليات القتالية باستثناء قتال تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة» (فتح الشام) المصنفين في قوائم الأمم المتحدة تنظيمين إرهابيين وموافقة ١٣ فصيلاً إسلامياً ومعتدلاً منضوياً ضمن ٧ تكتلات على هذه التفاهمات والبدء بعزل «النصرة» وقتال «داعش» في مقابل قيام مجالس محلية ومناطق تجارية ونشر مراقبين روس وأتراك في مناطق المعارضة وإطلاق عملية سياسية تسمح للسوريين بتقرير مستقبلهم. وإلى الآن نجحت أنقرة في الوفاء بالتزاماتها، وساهمت زيارة وزير الدفاع القطري خالد العطية إلى تركيا ولقاءاته مع فصائل إسلامية ومسؤولين أتراك في ضمان التزام تركيا تعهداتها إلى روسيا، خصوصاً بقاء «أحرار الشام» ضمن هامش التفاهمات وفرملة «النصرة» من تشكيل تحالف متشدد يطلق النار على وقف العمليات القتالية.

ومن المقرر أن يصل وفد ديبلوماسي روسي إلى أنقرة بعد غد للإجابة عن عدد من الأسئلة: «ما هي الفصائل السياسية والعسكرية التي ستمثّل المعارضة في مفاوضات آستانة؟ ما هي مدة المفاوضات وعلى أي مستوى؟ هل سيجلس وفدا الحكومة من الديبلوماسيين والجيش من جهة والمعارضة من سياسيين وفصائل إسلامية من جهة ثانية في الغرفة نفسها أم أنها مفاوضات غير مباشرة؟ على أي مستوى؟ ما هو جدول الأعمال؟ وما هي الدول الإقليمية والكبرى التي ستشارك في المفاوضات؟». وبحسب المعلومات، فإن أنقرة تريد أن تقود «الهيئة العليا للمفاوضات» وفد المعارضة بمشاركة ممثلي الفصائل المعارضة وترفض مشاركة «الاتحاد الديموقراطي الكردي» في وفد المعارضة، وتقترح أن يشارك مع ممثلي الأحزاب السياسية المرخصة في دمشق ضمن الوفد الحكومي. كما أن أنقرة رفضت اقتراح موسكو ضم العراق ومصر إلى قائمة المدعوين إلى آستانة كي لا تتكرر تجربة «المجموعة الدولية لدعم سورية» عندما زاد عدد الدول المشاركة ما عقّد إمكان الوصول إلى تفاهمات قابلة للتنفيذ.

وقبل وصول الوفد الديبلوماسي الروسي، جرت مفاوضات بين خبراء عسكريين روس وأتراك في أنقرة أول من أمس لبحث آلية معالجة خروقات وقف النار وكيفية الرد عليها والأطراف التي تشملها. ودفع الجانب التركي لشمول الجيش السوري ضمن الأطراف التي يمكن معاقبتها في حال خرق الاتفاق واستعجال نشر مراقبين كما حصل لدى نشر الشرطة العسكرية الروسية في حلب.

وخلال المحادثات العسكرية الروسية - التركية، برزت إلى الواجهة خروقات وادي بردى بين دمشق وحدود لبنان ما ألقى الضوء على التحالف بين روسيا من جهة وإيران والحكومة السورية و «حزب الله» من جهة أخرى. وعندما استفسرت موسكو عن أسباب تصعيد العمليات العسكرية، تبلغت ثلاثة أسباب: «أولاً، وجود عناصر «النصرة» في وادي بردى. ثانياً، قطع المياه من عين الفيجة عن دمشق. ثالثاً، عدم وفاء المعارضة باتفاق الفوعة - الزبداني وعدم إطلاق عشرة آلاف مصاب ومدني من الفوعة وكفريا». كما تبلغت الأمم المتحدة بعض هذه الأسباب لاستمرار قصف وادي بردى والعمليات الهجومية على المنطقة.

في هذه المرحلة، حصل تصعيد كبير بين أنقرة وموسكو عندما اتهم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو «إيران والميليشيات الموالية بعدم التزام وقف النار» بالتزامن مع استمرار الاتصالات اليومية بين جاويش أوغلو ونظيره الروسي سيرغي لافروف و «امتنان تركي» لدعم انتقائي من الطيران الروسي لعملية «درع الفرات» شمال حلب، الأمر الذي ردت عليه طهران بزيارات رفيعة إلى دمشق واتهام أنقرة بـ «تعقيد الوضع السوري». وكان هذا استمراراً للتوتر بين الجانبين منذ بدء العمل بين موسكو وأنقرة على عقد تفاهمات واتفاقات وقف النار، إذ أن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف رفض التوقيع على وثائق الاجتماع الثلاثي الوزاري الروسي - التركي - الإيراني في موسكو نهاية الشهر. كما أنه رفض الدخول في رؤية إيران لوقف النار والحل السياسي خلال محادثات جاويش أوغلو ومدير الاستخبارات فيدان حقان من جهة وظريف ورئيس فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني من جهة أخرى في طهران.

وإذ نفت المعارضة وجود «النصرة» (تحدث البعض عن عشرات)، جرى التفاهم بين موسكو وأنقرة على إرسال وفد عسكري روسي إلى وادي بردى لاستطلاع الوضع وحل مشكلة تدفق المياه إلى دمشق وحل العقد الأخرى، مثلما حصل لدى بدء تنفيذ اتفاق إجلاء شرق حلب وفرض إيران وضع ملف الفوعة وكفريا في «الصفقة»، لكن الضباط الروس فوجئوا بعدم السماح لهم بالذهاب إلى عين الفيجة. وتبلغوا ضرورة التنسيق مع دمشق في شكل مسبق. وحرص الجانب الروسي على نفي ذلك لتجنب أزمة علنية مع طهران. وقال مسؤول مقرب من موسكو: «ندرك أنه كلما ابتعدنا عن الحل العسكري واقتربنا من الحل السياسي ستزيد الفجوة مع إيران وحلفائنا، لكن نريد التنسيق والتفاهم للوصول إلى تفاهمات مشتركة».

في المقابل، تمسكت دمشق وطهران و «حزب الله» بخيار «تنظيف» أطراف دمشق سواء بـ «الحسم» العسكري بين العاصمة وحدود لبنان أو «المصالحات» في جنوب العاصمة وربما شرقها حيث تم عرض اتفاق مصالحة جديد مع فصائل معارضة قرب السيدة زينب، تضمن تسوية أوضاع المقاتلين مقابل قتالهم «النصرة» و «داعش» وتأمين جوار السيدة زينب. وقال مسؤول مقرب إلى طهران: «لدينا خطط عسكرية ومصالحات وسنعمل مع موسكو لإقناعها بهذه الخطط كي تعرف أنه لا يمكن الوثوق بتركيا ولا بد من تطبيق التفاهمات الاستراتيجية» التي عقدت بين بوتين ومرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي بعد المحادثات التفصيلية بين سليماني والرئيس الروسي وذلك قبل التدخل العسكري الروسي المباشر في نهاية ٢٠١٥. وأشار إلى أن سيطرة «داعش» على مدينة تدمر الأثرية التي سعت موسكو إلى إقامة قاعدة عسكرية فيها، بمثابة تذكير لموسكو بضرورة الاعتماد على القوات النظامية وأنصارها في تثبيت التقدم على الأرض، وأن القوة الجوية ليست كافية لهزيمة «داعش».

وفي موازاة التفاهمات الروسية - التركية على مقايضة التخلي عن «النصرة» بمجالس محلية للمعارضة في إدلب، وضعت طهران ودمشق و «حزب الله» خطة عسكرية مفصلة للسيطرة على محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة «جيش الفتح» (فصائل إسلامية بقيادة «النصرة») عبر شن هجمات موازية من جسر الشغور غرباً ومن حلب شرقاً ومن ريف حماة جنوباً. وأضاف المسؤول: «لا بد أن تقطع تركيا خطوط الإمداد عن المسلحين قبل إعلان وقف النار ولا بد من الحسم العسكري أولاً ثم البحث عن الحل السياسي». هذه الخطة تفسرها أنقرة على أنها «عدم انصياع إيراني للاتفاقات مع موسكو».

غموض التفاهمات بين موسكو وأنقرة وتضمن الوثائق الأربع التي قدمت إلى مجلس الأمن الأسبوع الماضي الكثير من التواريخ والمعلومات المتناقضة وغياب النص التفصيلي لاتفاق وقف النار من جهة والقناعة من عدم قدرة موسكو على فرضها على حلفائها من جهة ثانية، دفعا الدول الغربية (أميركا وفرنسا وبريطانيا) إلى التعاطي بحذر مع اتفاق وقف النار ونصحت المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا بالتعاطي بذات الحذر مع ملاحظة تقدم ملموس تضمن اعتراف موسكو بشرعية الفصائل الإسلامية. هذه الدول اقترحت ألا يشارك دي ميستورا في مفاوضات آستانة والاكتفاء بإيفاد وفد من القسم السياسي في الأمم المتحدة في نيويورك، لكن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس رأى أن لا يبدأ مهمته بتوتر مع روسيا، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، لذلك تسير الأمور إلى مشاركة دي ميستورا أو نائبه السفير رمزي رمزي في مفاوضات آستانة اعتماداً على مستوى الوفود المشاركة على أمل أن يمهّد ذلك إلى استئناف مفاوضات جنيف مع احتمال خفض سقف مفاوضات آستانة إلى مجرد البدء بإجراءات بناء ثقة تتعلق بتثبيت وقف النار والمساعدات الإنسانية بدلاً من بحث القضايا السياسية المتعلقة بـ «الانتقال السياسي» وتنفيذ «بيان جنيف» والقرار ٢٢٥٤، بحسب ما تطالب الدول والأطراف الحليفة للمعارضة.