المفكر المغربي طارق: المغرب يعرف مرحلة تحول ديمقراطي تتخلله ارتدادات سلطوية «طبيعية»

الطاهر الطويل

في هذا الحوار مع «القدس العربي» يحلل الباحث الأكاديمي والمفكر المغربي حسن طارق تجاذبات الحالة السياسية في المغرب، كما يرصد مواقف وأدوار النخبة الثقافية والسياسية، ويبرز مساهمة شبكات التواصل الاجتماعي في إشاعة «ديمقراطية الرأي»، متوقفا عند أهمية الحراك الاجتماعي الذي انفجرت شرارته في سياق الربيع العربي عام 2011 ومشددا على ضرورة تملّك المجتمع وقواه الحية لرهانات التحول الديمقراطي.

○ يعتبر إرنست رينان «السياسة حربا باردة» هل ينطبق هذا التوصيف على المسار الطويل الذي طبع المشاورات من أجل تشكيل الحكومة المغربية، منذ انتخابات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الأخير؟ 
• ما نعيشه هو تعقّد في مسار تشكيل الأغلبية البرلمانية، الانتخابات جرت في الأسبوع الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر، وبعد ذلك قام الملك بتعيين الأمين العام للحزب المتصدر للاقتراع رئيسا للحكومة، في احترام تام للمنهجية الديمقراطية المعبر عنها في الدستور. لكن، لحد الآن لم تشكل الحكومة. لماذا؟ لأن عبد الإله بن كيران لم يستطع بناء ائتلاف برلماني قادر على منحه أصوات أغلبية النواب. ذلك أنه مع تقدم حزبه بشكل كبير انتخابيا، يبقى في حاجة إلى تحالف أوسع لضمان الأغلبية، وهو الأمر الذي تأزم بالضبط في عقدة اعتراض حزب التجمع الوطني للأحرار على وجود حزب الاستقلال داخل الأغلبية نفسها، وهي العقدة التي أخذت أبعادا أكبر مع الآثار السياسية لتصريحات الأمين العام لهذا الحزب الأخير حول الجارة موريتانيا. 
عموما، نحن اليوم في الأمتار المستقيمة الأخيرة لتشكيل الحكومة، خاصة بعد إرسال الملك عبر اثنين من مستشاريه رسالة مباشرة لبن كيران حول قلقه من التأخر في إخراج المؤسسة الحكومية.

تمرين ديمقراطي

○ إلى أي حد يمكن الحديث حاليًا عن أزمة سياسية في المغرب نتيجة لهذا الوضع؟
• لا أعتقد ذلك، وإن كان ما يقع يعبّر عن أعراض أمراض عميقة داخل حياتنا السياسية، ذلك أن هذا التعقد يعود في النهاية إلى تمرين ديمقراطي موضوعه هو الاستئناس الجماعي بالأبعاد الجديدة لدستور 2011 خاصة ما يتعلق داخلها بانبثاق الحكومة من الأغلبية البرلمانية، وتحول الحكومة من مجرد امتداد لسلطة المؤسسة الملكية إلى أن تصبح كذلك تعبيرا عن الإرادة الشعبية وعن الأغلبية السياسية، وترجمة لقرار الناخبين الصادر عن صناديق الاقتراع.
○ ضمن هذا المسار، شهد القاموس السياسي تداولا مكثفا لمصطلحات من قبيل «التحكم». في اعتقادك، هل ثمة مسعى فعلي للتحكم في الخريطة السياسية في المغرب؟ 
• ليس من المهم بالنسبة لي البحث عن دلالات وحقيقة سلوكات الهيمنة التي توحي بها كلمة «التحكم» كإحدى الاستعارات التي أنتجها الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية للدلالة على وجود قوى «غير مؤسسية» وعلى هامش السلطة السياسية تحاول ضبط إيقاع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمدنيين، ذلك أن الجميع يعرف أن المغرب يعرف مرحلة تحول ديمقراطي، تتخلله ارتدادات سلطوية «طبيعية»، لكن من المهم الإشارة إلى «النفوذ» التواصلي القوي لهذه الكلمة التي تحولت إلى ركن أساسي في بناء السردية المركزية للخطاب السياسي لبن كيران؛ حتى أنها قد أصبحت تقريبا كلمة رجيمة، وموضوع تحفظ رسمي شبه معلن، لكنها في الوقت نفسه كانت قد تحولت إلى ما يشبه رمزا (قنّا) سريا في لغة التواصل بين بن كيران والجمهور، رمزا قد يحضر بالغياب أو بالإحالة أو بالاستعارة، أو بمجرد استحضار مفاهيم مجاورة من شبكة الكلمات التي صنعت تواطؤا تواصليا غير مسبوق بين منتج الخطاب ومتلقيه.
قبل ذلك، كانت هذه الكلمة الغامضة قد تحولت إلى عنوان بسيط يختزل خطاطة قراءة معينة للحقل السياسي، بشكل لا يبتعد كثيرا في المضمون عما كانت قد أنتجته الحركة الوطنية ثم اليسار من مفاهيم، انطلاقا من القوة الثالثة (بلغة عابد الجابري) وصولا إلى جيوب مقاومة التغيير (بلغة عبد الرحمان اليوسفي) مرورا بالحزب السري (بلغة محمد اليازغي) وهي الكلمة التي يعكس سحرها النفوذ الإيديولوجي لأصحابها، ذلك أن إنتاج المعجم السياسي، ظل دائما مسألة ذات علاقة برهانات الهيمنة الثقافية والتفوق السياسي، خاصة عندما تفرض اللغة نفسها خارج عائلتها السياسية الأصلية، وتصبح جزءا من المشترك التواصلي.

أزمة النخب

○ المصطلح الثاني هو «البلوكاج» (العرقلة) فهناك من يرجع عرقلة عملية المشاورات إلى رئيس الحكومة المعين نفسه، عبد الإله بن كيران في حين ثمة من يلقي اللوم على الطرف الآخر المتمثل في رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار ما رأيك؟
• بعيدا عن تحليل أداء الفاعلين، وتحميلهم المسؤولية بشكل مفرد أو بتفاوت، يبدو أن ما يسمى البلوكاج (العرقلة) لا يعدو أن يكون مجرد تكثيف لأعراض حالة سياسية مليئة بالأعطاب.
ما وراء البلوكاج، دليل آخر على أزمة النخب، إذ لا يزال المشهد الحزبي في جزء كبير منه مجرد مجموعة قيادات لا تملك مشروعا جماعيا سياسيا أو ثقافيا أو قيميا خارج تدبير مشاريعها الشخصية الخاصة. قيادات لا تملك شجاعة الإعلان على التحالفات السابقة عن زمن الاقتراع والمبنية على حد أدنى من الوضوح السياسي، وترجئ أمر التحالف إلى ما بعد ظهور الفائز، لتبحث بعدها عن الخطاب «المناسب» لتبرير اصطفافاتها الطارئة. وراء البلوكاج، يوجد بالتأكيد نظام انتخابي، يحمل في هندسته «النسبية» غايات إدماجية مناسبة موضوعيا لمراحل التحول. لكنه، مع غياب التحالفات الحزبية السابقة عن لحظة الاقتراع، والتي من شأنها تصحيح آثاره على مستوى تعقد بناء الأغلبيات، يصبح هذا النظام غير متلائم مع منطق دسترة المنهجية الديمقراطية، وهو ما يجعل القرار السياسي لصناديق الاقتراع تحت رحمة «تكتيكات» قيادات الأحزاب، ما يسمح في النهاية بهوامش واسعة لتدبير الترتيبات السياسية لما بعد الانتخابات.
ما وراء البلوكاج ورش غائبة في بلادنا، هي ورش معالجة الشق السياسي من أجندة الإصلاح، الإصلاح الذي يعني التقدم في المصالحة مع السياسة، السياسة التي تعني أن الحلول لا تصنع بعيدا عن المواطنين، وخارج ربط السياسات بالإرادة الشعبية.
○ إزاء هذا الوضع، إلى أي حد يمكن التخوف على مآل المنعطف الديمقراطي الذي يتشكل في المغرب منذ دستور 2011؟ وأي دور منتظر من الأحزاب لاستعادة ثقة المواطن في الممارسة السياسية وفي المؤسسات المنتخبة أو المتمخضة عن الانتخابات؟
• مآل المنعطف الديمقراطي سؤال لا بدّ أن يُطرح في مثل هذه اللحظة. وهنا، لا بدّ من طرح بعض الأفكار السريعة، أولا هناك إصرار على حماية النموذج الإصلاحي الديمقراطي المغربي، ثانيا يتوفر المغرب اليوم على قاعدة مؤسساتية ودستورية متقدمة، ثالثا من المؤكد أن البناء الديمقراطي ليس مسارا خطيا، ومن ثم فهو معرض للعثرات والمقاومات والارتدادات. لذلك، فضمانات التقدم لا تتعلق فقط بالمستوى المعياري للدستور أو بالالتزام السياسي للمؤسسات وعلى رأسها المؤسسة الملكية، وطبعا هذه محددات مهمة، لكنها في حاجة إلى تملك المجتمع وقواه الحية لرهانات التحول الديمقراطي.

«ديمقراطية الرأي»

○ ما هي درجة مساهمة شبكات التواصل الاجتماعي في النقاش السياسي العام في المغرب؟ وأي مظاهر سلبية أو إيجابية لما يتداول عبر تلك الوسائط؟
• في سياق تحليل ظاهرة فضاءات التواصل الاجتماعي، يعتبر كثيرون أننا أمام بوادر وإرهاصات «ديمقراطية رأي» ناشئة، قد تكون هي غنيمة حراك مغربي، وقف في مُنتصف الطريق. ولافتٌ أن هذا الحراك نفسه تفاعلت مخاضاته، بدءاً في عوالم ديمقراطية الرأي، بين رواد «فيسبوك» ونشطاء هذا العالم الأزرق، فالمجموعات التي تداعتْ للاحتجاج يوم 20 فبراير/شباط 2011، كانت، في الأصل، شبكات افتراضية من الصداقات والحوارات والنقاشات، توافقت، في الأخير، على نقل غضبها وهواجسها إلى الأرض.
سنتان بعد ذلك، ستعيد قضية الاحتجاج الشبابي الواسع ضد قرار العفو على دانييل كالفان، مغتصب الأطفال الإسباني الجنسية، بعث السؤال ما إذا كان قوس «مغرب 20 فبراير» قد أُغلق، خصوصاً أن يوميات هذه القضية ستُؤشر، في العمق، على نوعية من التحولات التي باتت تخترق بنية الفعل السياسي وأشكال بناء القضايا العامة والمدى الجديد الذي أصبحت تصل إليه مطالب «الفاعلين الجدد» بعيداً عن الحدود المرسومة وغير المكتوبة، المُلتزم بها، عادةً، فاعلو المؤسسات.
وإذا كان مؤكداً أن دينامية فبراير المغربي استندت، في صيرورتها، على «المفاجأة الاستراتيجية» لحدث الربيع العربي في موجته الأولى، فإن من غير الممكن، في لحظة تحليل الحدث، إقصاء عناصر البيئة الوطنية المُستقبلة، والتي سهّلت ولادة الهَبّة المغربية، ليس حدثاً عابراً ضمن يوميات السياسة المغربية، ولا مجرَد صدى بعيد للمحيط الإقليمي. ولكنه عنوان على تحولات سوسيولوجية نافذة، مسّت علائق الشباب بالسياسة، ووسائل التأطير، وطرائق الاحتجاج.
القصد من هذا التذكير السريع هو المجازفة بالقول إن دينامية 20 شباط/فبراير، في تمظهراتها الحركية، قد تؤول إلى التحلل أو حتى الموت، لكن هذا لا يعني أن بالضرورة موت فكرة «الاحتجاج السياسي» بدعوات من مُواطنين ومن أفراد، تيسّر لهم وسائط التواصل الجديدة تأسيس شبكات وتحالفات، وبناء قضايا مهيكلة للرأي العام.
لم يكن الاحتجاج على المُغتصب الإسباني حالةً معزولة لعودة روح وفكرة «20 فبراير» للتأثير في الأحداث، فالحاصل أن غالبية التعديلات الحكومية التي عرفها فريق عبد الإله بن كيران لم تكن وراءها لا الأحزاب السياسية، ولا المعارضة البرلمانية، ولا الصحافة التقليدية، بقدر ما كان موقف «الرأي العام الجديد» حاسماً في تفاعلاتها. 
قد يكون مفيداً، هنا، أن نتحدث عما تسميه أدبيات أكاديمية كثيرة «ديمقراطية الرأي»، توصيفاً لحالة من القدرة التعبوية التي يُحدثها تقاطع مواقف مواطنين/أفراد، داخل الساحة العمومية، ومقابلاً لـ«ديمقراطية المؤسسات» حيث الاختلافات تكمن في نوعية الفاعلين، وفي طبيعة استراتيجيات الثأثير، وفي الزمن السياسي نفسه.
○ وما دور النخبة المثقفة في هذا المجال بمعنى آخر، كيف تنظر إلى جدلية الثقافي والسياسي في السياق المغربي؟
• للجواب على سؤالك بحالة ملموسة، تابعنا ـ مثلا ـ ما جرى قبل الاستحقاق السياسي الذي شهده المغرب أواخر العام الماضي، والمتعلق بانتخاب مجلس النواب يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر كيف كان الرأي العام الوطني على موعد مع بيانين موجهين إلى عموم المواطنين من مثقفين وكتاب؛ حمل الأول صيغة عريضة تدعو إلى «ترشيد البناء الديمقراطي والمؤسساتي في المغرب» مذيلة بتوقيعات ما يفوق سبعين شخصية، تضم مقاومين (محمد بنسعيد آيت يدر…) وقادة سابقين لأحزاب وطنية (محمد بوستة ومولاي إسماعيل العلوي…) وصحافيين، وتتشكل أساساً من مثقفين بخلفية يسارية غالبة. وصدر البيان الثاني بعد أيام، في صيغة رسالة مفتوحة موجهة إلى الأمينة العامة الحزب الاشتراكي الموحد، نبيلة منيب، بنبرة للتنويه والتشجيع والدعم، موقعة من مئة شخصية أكاديمية ومدنية وحقوفية وفنية، منهم الأنثروبولوجي عبد الله حمودي والروائي والناقد محمد برادة والشاعر محمد بنيس. جاءت عريضة الدعوة إلى ترشيد البناء الديمقراطي في نص طويل، يفتح مسالك كثيرة بشأن عناصر متعدّدة ومتداخلة من السياق السياسي المغربي، مأزق الإصلاح والتحديث (تفادى البيان كلمة الحداثة) والحاجة إلى عقد وطني للإصلاح، وأزمة إنتاج وإعادة إنتاج النخب، ظاهرة اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، والتباسات الديمقراطية والليبرالية السياسية، وجدليات المسألة الوطنية.في مقابل ذلك، وبلغة أقل تكلفاً، وأكثر حرصاً على «الرسالة» يعتبر الموقّعون على البيان الثاني أن التجربة الانتخابية لفدرالية اليسار الديمقراطي يجب أن تفضي إلى بروز قوة سياسية جديدة (خيار ثالث)، لا تجعل المواطنين موزّعين بين المطرقة والسندان، بين خيار الإصلاح بأدوات الفساد وخيار الاستمرارية المؤدية إلى الانفجار، أي بين الخط الذي يعتبر أن الإصلاح ممكن من دون رافعة تنويرية، وبمجاملة الفاسدين، وخط الحداثة المبتورة، والسطحية التي تبرّر السلطوية، بذريعة مواجهة خطر الأصولية. 
يعيد البيانان طرح أسئلةٍ لا تنتهي بشأن علاقات السياسي بالثقافي، لكنهما يشيران كذلك، من حيث طبيعة تلقيهما، إلى مستوى النقاش العام في المغرب، والذي يستمر في التردّي والضحالة، بشكلٍ لا يسمح بتاتاً بالتفاعل مع مثل هذه الدعوات، وهو الأسير داخل سطوة «اليومي» وردود الفعل السريعة، ذات النفس القصير. 
بعيداً عما تبقى من تقاليد البيانات والعرائض الجماعية، وهي ممارسة ثقافية راسخة في تاريخ العمل الثقافي والسياسي في المغرب، وكذا عن أفول العناوين الكبرى في الفعل الثقافي الجماعي (مثل اتحاد كتاب المغرب/ الملاحق الثقافية للصحف الحزبية/ المجلات الفكرية الملتزمة) يوقع كثيرون من مثقفينا على صيغ جديدة للحضور العمومي، سواء بالكتابة أو عبر التدوين اليومي داخل فضاءات التواصل الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد الناجي، ولطيفة البوحسيني، والمحيفيظ محمد، ومصطفى يحياوي، وعز الدين بونيت.
يُراد لذلك كله في سياق سياسي/ انتخابي أن يهيكل قسرياً، في صيغة احتراب وتقاطب مصطنع، حول قضايا أيديولوجية (الأخونة، الحداثة، الهوية..) لكن، بشكل مفارق، بدون أفكار، ولا نقاش، ولا عمق، حيث رهانات السلطة والمصالح والمواقع، وتكاد الهشاشة الفكرية لغالبية المرجعيات الفكرية للتعدّدية الحزبية تجعل الصراع السياسي يعود إلى حالته البدائية الأولى. وهو ما يجعل صوت «المثقف» غريباً وسط حالة الصراخ المعمّم، ومغامرة وسط حالة التصنيفات السهلة.

Share on Facebook