راغدة درغام

وسط تموضع مدروس ونشيط لروسيا والصين في حقبة رئاسة دونالد ترامب، تبدو أوروبا متوترة ومبعثرة، ودول الخليج العربية رابضة في الانتظار، وإيران في تأهب لصيانة أرباحها الإقليمية وحماية نفسها من طاقم الإدارة الجديدة العازم على التدقيق بأفعالها.

 الأمم المتحدة دشنت عهداً جديداً بتولي الأمين العام أنطونيو غوتيريس مهماته مطلع الشهر الجاري وسط محورية لافتة لأدوار حاضرة وغائبة لمجلس الأمن وللمبعوثين الدوليين إلى أماكن النزاع مثل سورية وليبيا واليمن. فروسيا تختطف ملف سورية من مقر التسوية السياسية في جنيف تحت إشراف مجلس الأمن إلى مقر الحل السياسي كما يراه الكرملين ويسيطر عليه في آستانة متعمدة تغييب الأمم المتحدة عن ملف سورية. 

الدول الخليجية ترد على روسيا بتمسكها بالأمم المتحدة وقراراتها ورهانها على شراكتها مع أوروبا في رفض الاختطاف الروسي ورفض مكافأته عبر إنجاح محادثات آستانة، وهكذا رهانها هو على الفشل. واشنطن منهمكة في التعرّف إلى الرئيس الجديد وطاقمه وهي تودّع الرئيس الـ 44، باراك أوباما، وسط انقسام شعبي حول هوية أميركا الداخلية وسياساتها الخارجية لجهة القيادة العالمية والعلاقات الأميركية – الروسية. 

الرئيس الـ 45، دونالد ترامب سيتسلم زمام الرئاسة الأسبوع المقبل وسط جدل ومخاوف ممزوجة بحماسة شعبوية من الداعمين له مهما فعل. سيدخل البيت الأبيض مهدّداً ومتوعِّداً للإعلام مسلحاً بقدرته على التواصل الاجتماعي عبر «تويتر» وغاضباً من أجهزة الاستخبارات الأميركية بصورة علنية لا سابقة لها بسبب التسريبات في شأن القرصنة الإلكترونية الروسية في الولايات المتحدة. 

كل المؤشرات تفيد بأن ترامب الرئيس سينفّذ ما وعد به ترامب المرشح ما لم يتمكن وزراؤه من التأثير فيه وتتمكن المؤسسة السياسية من لجم نزعة الاعتباطية لديه. مرشحه لمنصب وزير الخارجية، ريكس تيليرسون، أعطى مجلس الشيوخ لمحة مهمة عن توجهاته وقناعاته إنما أوضح أيضاً أنه لم ينسّق مسبقاً تلك المواقف مع دونالد ترامب، وأن القرار النهائي عائد دوماً إلى الرئيس. 
الأولويات التي أدرجها تيليرسون تفيد بأنه راغب في الشراكة مع روسيا في محاربة إرهاب «داعش» وأمثاله وكذلك في محاربة صعود الإسلام الراديكالي برمته بما في ذلك «الإخوان المسلمين»، عكس إدارة أوباما التي حمّلها مسؤولية دعم الراديكالية الإسلامية وبروز «داعش» وتداعيات تخلّي الولايات المتحدة عن قيادتها العالمية وعلاقاتها التقليدية مع الحلفاء بالذات في الشرق الأوسط. 

أوضح تيليرسون أن إيران ستكون تحت المجهر في رعايتها التطرف والميليشيات كما في تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاق النووي الذي لن يُمزق وفق ما سبق أن أفادت الأجواء الانتخابية، وإنما ستتم مراجعته. وبدا الوزير المكلّف ملف السياسات الخارجية براغماتياً يتقن لغة المصالح الإستراتيجية آتياً إلى المنصب بخبرة نفطية وجغرافية – سياسية وافرة، وكان له ما يقوله حول روسيا والصين.

الفارق الرئيسي بين ما يريده الكرملين للمجتمعات الأميركية والأوروبية من زعزعة استقرارها عبر تعزيز التيارات القومية وتفكيك النسيج الاجتماعي فيها وما يريده تيليرسون لأميركا والعالم يكمن في مبدأ القيادة واستعادة الهيبة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استفاد جداً من مبدأ القيادة من الخلف الذي تبناه أوباما وهو حصد كثيراً نتيجة تخلي الولايات المتحدة عن القيادة العالمية.

اختلفا جذرياً في مسألة صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وليبيا وتونس وسورية. وهذه إحدى مواقع التوافق الجديد الذي سيبرز في عهد ترامب ليحل مكان الاختلاف مع إدارة أوباما: معارضة صعود الإسلاميين إلى السلطة بمن فيهم «الإخوان المسلمون».

مثل هذه الأولوية سينعكس على العلاقات مع مصر التي تكافح «الإخوان»، وسيؤثر إما في توجهات تركيا أو في مصيرها إذا بقيت راعياً أساسياً لمشروع نهوض «الإخوان». فالرسالة المشتركة الجديدة للكرملين وإدارة ترامب ستُوجّه إلى كل المعنيين بمن في ذلك في دول الخليج وعنوانها رفض أي تأقلم مع الإسلام الراديكالي وأي تشجيع لنهوض «الإخوان المسلمين»، إلى جانب العزم المشترك على إتمام مهمة القضاء على «داعش» وأمثاله. فلقد نَفَد مفعول «داعش» وانتهت فوائده وحان تاريخ انتهاء صلاحيته، بقرار روسي – أميركي.

إنما لن تتوقف العلاقات الأميركية – الروسية عند اللقاء على مكافحة الإرهاب والتطرف، إذ إن مقاييس المصالح الأميركية ستختلف في إدارة ترامب عن إدارة أوباما، وأبرزها ما وصفه تيليرسون بإحياء الوزن الأميركي عالمياً وتجديده بعدما أدى «غياب القيادة الأميركية» إلى صعود موسكو وتعزيز نفوذها وتوسعها في جيرتها المباشرة وفي الشرق الأوسط. 

قال إن «من حق حلفائنا في الحلف الأطلسي أن يقلقوا من بروز روسيا مجدداً»، وإن من أجل تحقيق الاستقرار «يتحتم عدم تجديد القيادة الأميركية فحسب، وإنما تأكيد موقعها أيضاً»، إزاء الأخطار الآتية من روسيا. تيليرسون دعم استمرار العقوبات على روسيا حالياً فيما يتم «استكشاف فرص التعاون» بكل حذر. هكذا، اقترح أيضاً لجهة فسح المجال للتعاون بين الولايات المتحدة والصين إنما مع الإصرار على أن الصين «لم تكن شريكاً أهلاً للثقة لاستخدام نفوذها بهدف احتواء كوريا الشمالية». فهو قال إن أهداف الصين كانت «تتناقض أحياناً مع المصالح الأميركية»، وزاد إن الصين دوماً تضع «أهدافها الخاصة» فوق كل اعتبار.

فارق رئيسي سيبرز في عهد إدارة ترامب يكمن في العلاقة مع إيران. فلقد حدث نوع من التلاقي بين الكرملين وإدارة أوباما في ما يخص طهران. هوس أوباما بضرورة إنجاز الإتفاق النووي تلاقى مع حاجة فلاديمير بوتين إلى تحالف استراتيجي مع إيران في سورية. كلاهما بارَكَ، عملياً، صعود التطرف الإسلامي الشيعي وكافأه. 

ففيما كانت الإستراتيجية الروسية عازمة على مكافحة الإسلام السنّي المتطرّف والوقوف ضد تبني واشنطن صعودَ ما سمّته «الإسلام المعتدل» المتمثل في «الإخوان المسلمين» إلى السلطة، غضّت موسكو النظر كلياً عن نمو التطرف في إيران داخل السلطة عبر «الحرس الثوري» وفي المنطقة العربية عبر إنماء الميليشيات. تيليرسون وضع كلاً من «الإخوان المسلمين» و «عناصر في إيران» وتنظيم «القاعدة» ضمن سلة «التطرف الإسلامي». وهذا فارق مهم بين توجهات إدارة ترامب وإدارة أوباما كما بين الكرملين والبيت الأبيض ربما، إذ هذا الأمر يعتمد على كيفية تطور العلاقة الروسية – الإيرانية.

إيران تدرك أن الضغوط عليها آتية عبر إدارة ترامب، وكذلك عبر الأولوية الروسية المتمثلة في صوغ علاقات مميزة مع الإدارة الجديدة في واشنطن، وإبرام الصفقة الكبرى معها. لا يعني ذلك تلقائياً أن موسكو جاهزة لتمزيق تحالفها الإستراتيجي مع طهران، إنما إذا اضطرت روسيا للاختيار بين واشنطن وطهران، ستكون لواشنطن الأولوية إذا رحَّبت. 

الخلافات الروسية الإيرانية حول سورية ليست سطحية، ولكن، أي تسرّع للافتراض أن الطلاق الإستراتيجي بينهما آتٍ إنما هو خطأ وسوء حساب. ثم إن معالجة أزمة الثقة الأميركية – الروسية القديمة العهد، والتنافس الصحي على المصالح الكبرى، وصوغ ما قد يتحول إلى الصفقة الكبرى، أمور تستغرق وقتاً لأنها لم تختمر كلياً. إيران عازمة على الاستفادة من الفرص كيفما توافرت، من العراق إلى سورية إلى لبنان وإلى اليمن، وهي تتبنى إستراتيجيات البناء على الانتصارات الميدانية مع التلميح الديبلوماسي بالرغبة في فتح حوار، بشروطها.د

الديبلوماسية الخليجية لها نكهة الغياب ومحاصرة النفوذ الإقليمي الإيراني وتطويق الاستيلاء الروسي على ملف سورية في انتظار ترامب. ترتاح الدول الخليجية إلى الغامض الآتي على يدي ترامب لأن الواضح الذي أتاها من إدارة أوباما جعلها حَرِدَة وفاقدة الأمل. ما قاله ريكس تيليرسون هذا الأسبوع أحيا بعض الأمل عند الديبلوماسية الخليجية عندما دعا إلى «إعادة بناء ارتباطاتنا القديمة والهشة الآن، والتشدد مع خصومنا، والرد على انتهاكاتهم الاتفاقات» ذاكراً الاتفاق النووي مع إيران. انتقاداته اللاذعة لسياسات باراك أوباما بعثت الارتياح في قلوب كثير من الخليجيين وزادتهم انتظاراً.

الانتظار ليس سياسة، لا سيما أن الآخرين يتموضعون بكل نشاط وشغف وتخطيط. الإصرار على عدم إخراج ملف سورية من الأمم المتحدة هو موقف وليس استراتيجية متكاملة. الرهان على فشل مؤتمر آستانة في غياب السعودية وأوروبا ربما يكون رهاناً رابحاً، لكن الإفشال هو مجرد تكتيك في زمن ما بعد فوز روسيا وإيران بسورية. الدول الخليجية في حاجة ماسة إلى استراتيجية متكاملة للتموضع ليس فقط لدى إدارة ترامب وإنما أيضاً إزاء الاختراق الروسي في الشرق الأوسط، والانتصار الروسي – الإيراني في سورية، والفوز الإيراني بالعراق، والتوغل داخل اليمن. وربما حان الوقت لمبادرة من الدول الخليجية تأخذ زمام الأمور باستباقية وتحل مكان تكتيك الانتظار.

الأنماط التقليدية في التواصل البارد بين الدول الخليجية وإيران لم تؤدِ إلى نتيجة لمصلحة العرب، لا سيما في زمن غرام باراك أوباما وفلاديمير بوتين بإيران، ما مكّنها من تنفيذ مشروعها الإستراتيجي في الجغرافيا العربية. لعل عهد ترامب يفسح المجال لمقاربة جديدة، إنما هذا يتطلب اندفاعاً مدروساً ومبادرة إدهاش. إيفاد أمير الكويت مبعوثاً رفيع المستوى ناقلاً التعازي بوفاة الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني يشكل رسالة ترطيب طيبة. لكن المطلوب هو نقلة نوعية في العلاقات الخليجية – الإيرانية وفق مبادرة متكاملة تتزامن مع العهد الجديد في البيت الأبيض ولا تتكئ على استناجات خاطئة مسبقة حول ما في ذهن دونالد ترامب وإدارته. مبادرة براغماتية بواقعية سياسية.