إميل أمين

ما الذي يجري في العاصمة الأميركية واشنطن في الأشهر الأخيرة؟
يكاد الناظر للتطورات السياسية والاستخباراتية الأخيرة، أن يعتقد أن الأمر يشبه فصلاً من فصول مسرحية عبثية لصموئيل بيكيت، فدولة الديمقراطية باتت على حدود «ألمانيا النازية»، بحسب تعبير الرئيس المنتخب دونالد ترامب عينه، وما يجري من تسريبات لوثائق استخباراتية يليق بدول العالم الثالث أو الرابع، ولا يتسق أبدًا والاستثنائية القدرية لأميركا، ولا مع مكانتها كمدينة فوق جبل.
هل ما نراه مكارثية أميركية جديدة تذكر العالم بما جرى على يدي السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي في منتصف القرن العشرين، عندما تطايرت لوائح الاتهام في سماوات أميركا بتهم التآمر والخيانة ودعم الشيوعية، دون الاهتمام بالأدلة، الأمر الذي أصاب مفكرين وكتابًا، فنانين وأدباء؟
يذهب البعض إلى أن ما نراه الآن في واشنطن هو إرهاصات اغتيال للرئيس الخامس والأربعين، القادم من عالم المال والأعمال، والبعيد عن دسائس ومكائد رجالات السياسة والاستخبارات. والاغتيال نوعان: مادي، وهذا يمكن لأي عنصري شعبوي فوقي إمبريالي أميركي أن يقدم عليه، والولايات المتحدة اليوم مليئة بتلك الجماعات، والرافضين لترامب أكثر من نصف الأميركيين.
فيما الاغتيال المعنوي جارٍ على قدم وساق، والإشكالية أن القائمين عليه هم أركان الدولة ذاتها، من المجمع الاستخباراتي وبارونات «وول ستريت»، عطفًا على وسائل الإعلام التي يتلاعب بها جورج سورس وروبرت ميردوخ، والتي لم ولا تألو جهدًا لإظهار ترامب رفيقًا لبوتين وخائنًا لبلاده.
فوز دونالد ترامب أمر مرفوض، ليس من الديمقراطيين وحدهم، بل إنه كذلك من عدد من عتاة الجمهوريين في الكونغرس، بمجلسيه الشيوخ والنواب، من أمثال السيناتور جون ماكين ونظيره ليندسي غراهام، وغيرهم كثر.
عدة تساؤلات جوهرية لا نملك لها أجوبة شافية وافية، ونكتفي بإثارة التفكير حولها، وفي المقدمة منها: إذا كان لدى الاستخبارات الأميركية أدلة وبراهين ساحقة ماحقة، لا تصد ولا ترد، بشأن اختراق بوتين للعملية الانتخابية الرئاسية، فلماذا لا تعلنها على الملأ حتى يقتنع الرأي العام الأميركي بأن الانتخابات جرت في سياقات غير ديمقراطية، مع ما يعنيه ذلك من إخفاقات للأجهزة الأميركية الأمنية ذاتها؟
عدد من كبريات الصحف الأميركية، وفي المقدمة منها «نيويورك تايمز»، ذهبت إلى أن التقرير المشار إليه «لا يحتوي أمرًا رئيسيًا، وأن الأميركيين انتظروا كشفًا يطفئ ظمأ شغفهم، لكنهم فوجئوا بأنه مجموعة افتراضات ليس أكثر».
وفي حال افتراض حدوث الاختراق، فإن اللوم والإدانة لا يقعان على عاتق ترامب بالمرة، بل إن أجهزة الاستخبارات الأميركية، التي لا تترك شاردة أو واردة في الفضاء السيبراني، لا سيما وكالة الأمن القومي «NSA» المغرقة في السرية، هي التي تستحق المساءلة بتهمة التقصير، وربما تعلم تلك الوكالات بنوايا ترامب في تقديمها للمحاكمة لدى وصوله للرئاسة، وعليه تستبق الأمور بالتشكيك في مصداقيته وولائه.
المتابع للمشهد الأميركي الترامبي المكارثي، صدمته من جديد تقارير أخرى تتحدث عن علاقة أكثر سرية بين الرئيس المنتخب ودوائر أمنية روسية، وكأن الأخيرة قد جندته ليكون رجلها في البيت الأبيض، في عكس واضح للأدوار، وما جرى في زمن غورباتشوف وريغان، وذلك عبر وسائل ابتزاز تقليدية عرفها العالم، لا سيما من قبل الاستخبارات السوفياتية العتيقة «KGB»، وهو ما لا يتفق أبدًا مع حصافة إجراءات ترامب عند السفر، والتي أشار إليها في مؤتمره الصحافي الأخير.
ما يجري في واشنطن يجعلنا نتساءل في حيرة أشد: هل هناك أذرع وأطراف خفية أخرى في الداخل الأميركي تعمد إلى اغتيال ترامب وسربت التقرير الأخير؟ ولماذا لم يظهر التقرير الأخير أثناء الحملة الانتخابية، سيما أنه كان سيخدم هيلاري ويقلص فرص ترامب، وبخاصة أن جيمس كلابر مدير الاستخبارات الوطنية، نفى نفيًا تامًا أن تكون أجهزته هي من قام بتسريب المعلومات للإعلام الأميركي؟
تكاد الافتراضات تقود المرء إلى أسئلة محيرة ومقلقة كثيرة، تجاه ما يحدث في واشنطن في الحال، وما يمكن أن نراه في الاستقبال القريب جدًا... ربما قبل حلف اليمين... وعلى اللسان... من يريد أن يقطع الطريق على مصالحة وتوافق أميركي – روسي في عهد ترامب المنسجم مع بوتين؟ وهل هو انسجام حقيقي أم في الأمر بالفعل ضغوطات وابتزاز؟
الأمر هنا يعني أن هناك من له مصلحة ما في إذكاء نيران المواجهة من جديد وتقسيم العالم مرة أخرى إلى معسكرين: شرق وغرب، وهنا يبدو واضحًا أن أصحاب المجمع الصناعي العسكري بأطرافه الثلاثة من صناع أسلحة ومصانع، وجنرالات نافذين في البنتاغون، ومشرعين جمهوريين وديمقراطيين على السواء في الكونغرس، لهم مصلحة واضحة وفاضحة.
اللحظة الأميركية غير مسبوقة، والاحتمالات جميعها مفتوحة، والحقائق شبه غائبة، ملتبسة بالأكاذيب والشائعات، والمؤكد الوحيد هو أن روح أميركا منقسمة في داخلها، وفي المقابل منها تبقى القاعدة الذهبية: «كل بيت ينقسم على ذاته يخرب، وكل مملكة تنقسم على ذاتها لا تثبت».