حسن حنفي

إذا كانت القضية الأولى لدى ما نسميه «اليسار الإسلامي» هي تحرير الأرض من الاحتلال، والثانية تحرير الإنسان من القهر، والثالثة هي العدالة الاجتماعية ضد فقر الأغلبية وثراء الأقلية، والرابعة هي الوحدة ضد مخاطر التجزئة والتقسيم الطائفي المذهبي والعرقي.. فإن القضية الخامسة هي التنمية المستدامة.

والمصطلح غربي، مصدره الدراسات التنموية الحديثة بعد صعود العالم الثالث إثر حركات التحرر الوطني، وأخذه مكان الصدارة، وأغلبية الأصوات في الأمم المتحدة، وثلثي سكان العالم. ولا يعني لفظ «التنمية» مجرد النمو الاقتصادي الكمي، أي تنمية الموارد، بل يعني أساساً التنمية البشرية أو التنمية الشاملة. فالإنسان هو الهدف الأول من التنمية، تنمية الإدراك والقدرات الذهنية والبواعث النفسية من أجل التوجه نحو الطبيعة، ووجود الإنسان في العالم، حيث يتم الفعل والإنتاج والعمل والكد والكدح والسيطرة على مظاهر الطبيعة من خلال التعرف على قوانينها.

والتنمية المستدامة هي التي تعتمد على ذاتها، وليس على المعونات الخارجية التي تنضب بالتوزيع دون إيجاد وسائل للاستثمار وتحويلها من كم إلى كيف، من توزيع إلى إنتاج.. وهي التي تولد ذاتها بذاتها.. وهي تنمية الإنتاج وليست تنمية الاستهلاك.. وهي التنمية التي تحققت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق مشروع مارشال، وفي اليابان لدى إعادة بنائها بعد دمار الحرب، وفي كوريا الجنوبية وماليزيا والصين والهند.. اعتماداً على القدرات الذاتية وخطط للتنمية المستمرة.

والهدف من التنمية المستدامة تحرير الإرادة الوطنية من الاعتماد على الخارج، ومنع ارتهانها للمعونات الأجنبية المشروطة بالدخول في أحلاف مع الدول المانحة، أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها. فالطعام لا يستورد وإلا جاع الشعب في حالة الحصار. والأمة التي لا تأكل مما تنتج تظل أسيرة لمصادر طعامها. فرغيف الخبز حاجة أساسية، كالماء والهواء والتعليم والصحة والإسكان، والدولة في كثير من البلدان تدعمه حتى تستطيع الطبقات الفقيرة شراءه بالأجور المحلية التي لا تستطيع مجاراة الأسعار العالمية.

مهمة الإنسان في الطبيعة هي السيطرة عليها وتسخير قوانينها لصالحه. علاقة الإنسان بالأرض هي علاقة الفاعل بالمفعول، الزارع بالزرع. فقد خلق الكون كله لصالح الإنسان، الأرض لفأسه، والماء لريه.. دوره زرع الأرض وتحويل الصحراء الصفراء إلى أرض خضراء، وإقامة السدود وبناء الجسور لحفظ المياه، كما فعلت ملكة سبأ بتشييدها سد مأرب. والإنسان قادر على تفجير الماء من الصخر، كما فعل موسى حينما ضرب الصخر بعصاه فانفجرت منه العيون بإذن الله تعالى، وعندما سعت السيدة هاجر زوجة إبراهيم بين الصفا والمروة بحثاً عن الماء لشرب ولدها إسماعيل حتى لا يهلكا عطشاً، فانفجرت عين زمزم (استجابة لدعاء إبراهيم)، والتي أصبحت فيما بعد من مناسك الحج.

ويرتبط مفهوم التنمية المستدامة، ليس فقط بالطبيعة وتسخير قوانينها، بل أيضاً بمفهوم التقدم وهو عكسه التأخر.

إن كل شروط التنمية المستدامة متوافرة في الوطن العربي: رؤوس الأموال من عوائد النفط، والعقول العربية القادرة على التنمية على مستوى أعلى الخبرات العالمية، والسواعد العربية والعمالة المهاجرة والخبرة التاريخية بالزراعة في مصر والسودان والعراق، والأسواق الشاسعة وملايين البشر للاستهلاك. فلا يوجد ما يمنع من إقامة السوق العربية المشتركة القائمة على التكامل الاقتصادي.

وإذا كان العالم، كما يقال قرية واحدة، وكانت العولمة قانونه، فإنه لا يحل أزمة الغذاء وأزمة المياه في العالم إلا التوجه نحو الطبيعة والسيطرة عليها، وتسخير قوانينها، واستصلاح الأرض لزراعتها وتحويلها من أرض صفراء قاحلة إلى أرض خضراء يانعة. الإنسان في العالم مصدر خير، أتى من لا شيء وينتهي إلى لا شيء.

ولما كانت الشعوب الإسلامية، باستثناء بعضها القليل، ضمن الدول النامية، حينئذ يكون المعني الأول بالتنمية المستدامة هو الدول التي تخطط لها، ويكون للتنمية معناها الدائم حتى عند الدول المتقدمة. فالتنمية موقف الإنسان من الطبيعة كسيد لها، وكمسخِّر لقوانينها. وهي جانب من عملية التقدم الشاملة في الكون والتاريخ.