عزة السبيعي

تقول القصة الحقيقية، إن بدويا أُجبر على ركوب الطائرة، بعد محاولات أقربائه بإقناعه أن يوما بالسفر عبر البر سيتم اختصاره لساعتين إلى الرياض، فلما ركب الطائرة ظل واجما لا يكلم أحدا حتى بدأت الطائرة تصادف مطبات هوائية، وبدأ جاره يدعو الله أن يسلّم. 
لاحظ الجار صمت البدوي فسأله: "ما لك يا فلان لا تطلب الله السلامة"؟، فالتفت نحوه بحزن وقال: "والله إني مستحي منه يقول يا عبدي عطيتك الأرض ممتدة تسافر فيها وتعلقت الخضيراء (ركبت السماء) . 
دهش السائل من منطق البدوي لعدم انطباق هذا التبرير على رحمة الله عز وجل بِنَا، والتي لا تخضع لمنطق كهذا.
في الحقيقة، ربما كان يبدو الأمر سخيفا للبعض، لكن على الأقل هناك تبرير لموقف البدوي يمكن نقاشه، مما يجعله في درجة تفكير أعلى من كثيرين حولنا، تتعجب من أن مواقفهم لا مبرر منطقيا أو غير منطقي لها.
إن أي قضية فكرية تحتاج إلى عدة أركان للحكم عليها، وهي: القاضي، ومحامي الادعاء، ومحامي الدفاع، القاضي هنا هو عقلك، وهو كما في الواقع يجب أن يستمع لجميع الآراء، وأن يكون نزيها، بينما يجب أن يجتهد محامو الدفاع والادعاء بإظهار الأدلة والحجج التي تثبت صحة ما يؤمن كل منهما به. 
لذا، حتى لو كان القاضي -أو العقل- نزيها لكن لم يتم البحث جيدا عن أدلة الادعاء، فإنه قد يحكم للدفاع ويكون حكمه غير نزيه، والعكس أيضا صحيح. 
هذه الحالة تحدث مع أصحاب الانتماءات والأيديولوجيات الذين يهتمون بجانب واحد من القضية دون الآخر لمجرد انتمائهم إلى أصحاب هذا الفكر.
هذه الطريقة في التفكير لم يعرفها المسلمون سوى في الحقب التي سبقت الضعف السياسي والسقوط تحت احتلال سلطات سياسية غير مسلمة، أما الفترات التي عاشتها الدول الإسلامية فلم يكن هناك انتماء لأصحاب الفكر، بل مجتمعات تبحث عن الحقيقة، وتشاهد سلوكا يوميا من الاختلاف يعقد في أروقة المساجد عبر المناظرات الفقهية يستعرض فيه كل صاحب رأي حجته مع مبادئ مثل "كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر". "يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال".
هذا الأمر بدأ في الفقه الإسلامي وانعكس على حياة الناس، لأن الفقه كان جزءا من حياتهم، والمادة الأولى التي يدرسها الطفل بعد حفظه القرآن، فتدرب فيه العقل على التفكير المنطقي في مرحلة مبكرة من حياة الفرد، مما انعكس إيجابا على المجتمعات الإسلامية وحررت الناس، مما سمح بتداول المعارف والعلوم، وبالتالي ظهور الحضارة الإسلامية في مختلف شؤون الحياة وليس في الجانب الديني فقط.
الآن، تجد أن قناعات ملايين من الناس لا تستند إلى حجج منطقية، بل فقط لأن ذلك الرجل قال كذا، حتى لو ذكّرته بحديث صحيح للرسول -صلى الله عليه وسلم- سيذكرك هو بفلان وعلان، بل إنه لا يبالي لو تطاول على الآخرين انتصارا لرأي هذا المتبوع، مما يجعلك تتساءل: هل يدخل ذلك في باب التقديس؟
هذه التبعية عطلت العقل المسلم، وجعلته مستغلا من تجار العواطف، وأخّرته بشدة عن ركب الحضارة، وبالتالي القوة والسلطة في هذا العالم الذي ينهار بين أيدينا شيئا فشيئا.