سمير عطا الله

 قبل سنوات، استضافني في جدة الأستاذ عبد المقصود خوجة، متحدثًا في «الاثنينية» التي يرعاها. ولسبب ما، تحدثت عن وجود أكثر من 15 ألف جزيرة في إندونيسيا. وقبيل إنهاء اللقاء، اقترب مني رجل جليل، كان يشغل منصب وزير التجارة في الماضي، وقال لي بتواضع جمّ: لقد عرفتُ إندونيسيا منذ شبابي، لكنني لم أعرف أنها تضم كل هذا العدد من الجزر.
قلت له إنني من بلد لا جزر فيه، ولم أعرف معنى «عقلية أهل الجزر» إلى أن ذهبت إلى جزيرة الأمير إدوارد على أطراف كندا. وكانت الجزيرة، بأنهارها وجداولها وخضرتها، أشبه بحديقة من حدائق الجنة، لكنني لاحظت أن أهلها حذرون من كل لكنة غريبة. ولا يبدأ الحذر عندما نطأ أرض الجزيرة، بل في المركب الذي ينقلك إليها.
منذ ذلك الوقت، أخذت أدرك أن الجزر عالم خاص، جميل ومعقد، ويسمون تلك المساحات من البلاد التي ليست جزرًا، البرّ. أو اليابسة. وإذا كنت تعتقد أن اليونان هي أم الجزر، فعليك بجولة سريعة في بلاد إسكندنافيا: يقال إن هناك نحو 80 ألف جزيرة في فنلندا. وفي أي حال، لم أحبها بحرًا ولا برًا ولا ثلوجًا. لكن يقال أيضًا إن هناك 20 ألف جزيرة في أرخبيل السويد. والبلاد العزيزة بريطانيا تسمى «الجزر البريطانية».
وعندما عبرتها بحرًا إلى آيرلندا، خيل إليّ أن هذه آخر جزر العالم، وأقصى جماله الطبيعي. ناهيك بموقعها المذهل في الأدب العالمي، وكأنها عزلت نفسها من أجل أن يتفوق الآيرلنديون على سواهم. لكن ثمة سرًا شبه مضحك في هؤلاء السادة: لا يصبحون كتابًا كبارًا إلا عندما يعيدون عبور البحر في اتجاه الجزر البريطانية، أو القارة نفسها، أو أبعد من ذلك، إلى أميركا: جورج برنارد شو، صامويل بيكت، أوسكار وايلد، جوناثان سويفت، وليم فوكنر، هنري جيمس، وما إليهم من إلخ، إلخ، ثم إلخ.
هل هذه طبيعة الجزر؟ لا أعتقد. لن تعثر في مالطا على ربع جيمس جويس، لكن البحث سهل. فمساحة الجزيرة لا تزيد على 125 ميلاً. وإذا كان لا بد من أن ننسب كاتبًا شهيرًا إليها، فهو مواطننا أحمد فارس الشدياق الذي ذهب إلى هناك مترجمًا، قبل أن يستدعيه باي تونس ويخلع عليه الجاه والمال والوظيفة.
تتحدث مالطا لغة هجينة ما بين الإيطالية والعربية، وترفع الولاء الدائم لبريطانيا، وترفع في ساحة الجمهورية تمثالاً ضخمًا للملكة فيكتوريا، دون الشعور بأي تناقض أو حرج. فالجزر، كما نعرف، تودع وتستقبل بالسهولة نفسها. وإلا كيف تبقى؟