ةالقاهرة – هبة ياسين 

يؤمن خالد يوسف بالفن طريقاً للتغيير من دون أن يلتفت إلى حجم التشويه والهجوم، صانعاً ما يقتنع به. لا يهوى خوض الدروب السهلة بل يختار أكثرها مشقة. سياسي بدرجة فنان، خرج من صفوف الجماهير، ومن بين طين الأرض المصرية التي التحم بأهلها، فهو ابن كفر شكر في محافظة القليوبية التي تنتمي إلى البيئة التقليدية الكلاسيكية المحافظة بينما هو مخرج معروف بأفكاره المتحررة، لذا حين حاول البعض تشويهه واتهامه بأنه «مخرج الإباحية» كان لأبناء قريته رأي آخر فحملوه على الأعناق وانتخبوه ممثلاً لهم في البرلمان المصري، واكتسح النجاح ليس استناداً إلى نجوميته بل اعتماداً على التحامه بالجموع الغفيرة منذ الصغر.

وحين أصبح خالد يوسف «سينمائياً» اشتبك بأعماله مع هموم هؤلاء الناس اليومية طارحاً مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية وعبر عنها بصدقية، فالفن والسياسة عند خالد يوسف يتقاطعان، وكلاهما ينبعان لديه من معين واحد هو «الناس».

دلف يوسف إلى «باب الفن» عبر «شارع السياسة»، إذ تربي في كنف صديق والده السياسي المصري خالد محيي الدين، الذي أطلعه على منافذ المعرفة وأبحر به في المدارس السياسية والفكرية، حتى التحق بالجامعة لدراسة الهندسة، فصار أحد قادة الحركة الطلابية المصرية في الثمانينات وشغل منصب رئيس اتحاد طلاب الجامعة، واتخذ الاتجاه اليساري الناصري درباً سياسياً وفكرياً. ثم التقى المخرج يوسف شاهين، الذي دفع به إلى عالم السينما مؤمناً بموهبته. فبدأ يوسف حياته السينمائية في العام 1990 كمساعد مخرج لشاهين في بعض أفلامه.

في العام 2001 أخرج وكتب أول أفلامه «العاصفة»، وحصل على الجائزة الكبرى في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وتوج بجائزة أحسن فيلم ومخرج (عمل أول) في المهرجان القومي للسينما، فيما حصل فيلمه الثاني «جواز بقرار جمهوري» على جائزة أحسن مخرج (عمل أول) في المهرجان ذاته. وتوالت الأعمال، مثل «إنت عمرى» ثم «ويجا» و «خيانة مشروعة»، وفي العام 2007 شارك المخرج يوسف شاهين في إخراج «هي فوضى» في سابقة نادرة في تاريخ السينما المصرية. أثارت معظم أفلامه جدلاً واسعاً، لكنها حققت أيضاً نجاحاً على المستويات الجماهيرية أو النقدية.

علامات المخاض الثوري
حملت أفلامه طابعاً خاصاً فتماسّت مع الهم العام ومشكلات الفقراء وطرحت القضايا الكبرى للأمة، سواء الوحدة العربية التي هي إحدى ثوابته الفكرية أو الانحياز للفقراء والمهمشين وقضية العدالة الاجتماعية، وصارت قضايا مشتركة وشائعة في جميع أفلامه. بل إن أفلامه التي أخرجها قبل اندلاع ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، مثل «هي فوضي» و «حين ميسرة» و «دكان شحاتة» أو «كلمني شكراً»، أشارت بوضوح إلى أن مصر على وشك مخاض ثوري، فقدم من خلالها استشرافاً لاندلاع الثورة، وجسد بواقعية واقتدار مشاهدها قبل أن تحدث، سواء نزول الدبابات أو حظر التجول وحصار الأقسام الشرطية، والانفلات الأمني. وكأنه يقرأ المستقبل، بل ويراه، ثم تفجرت الثورة وكان أحد الداعين لها والمشاركين فيها، لتأخذه بعيداً من السينما وتعيده إلى دربه الأول في شارع السياسة الذي وصل عبره إلى عضوية مجلس النواب.

«الحياة» التقت خالد يوسف في مكتبه بالقاهرة، الذي عجت حوائطه بصور لرموز مصر عبدالناصر ونجيب محفوظ ويوسف شاهين وسعاد حسني وأم كلثوم وعاطف الطيب... وآخرين من مبدعي مصر الذين يراهم مداد الحضارة المصرية. وامتد الحوار مع خالد يوسف، الذي لم يكن دخول الفن قراره الشخصي كما يقول.

> كيف التحقت بالفن إذن؟
- حين اجتمعت بالمخرج يوسف شاهين خلال أحد اللقاءات التي كنت أدعو إليها الفنانين والمثقفين في الجامعة، أخبرني بحتمية أن أكون سينمائياً، مبرراً ذلك بأنني أمتلك أسلوباً مميزاً في (الحكي المرئي) وهي أولى مواصفات السينمائي الجيد، وبالفعل انجذبت إلى هذا المجال واكتشفت صدق حدسه تجاه موهبتي الفنية.

> مصر فيها سياسيون كثر، لكن المخرجين في حجم موهبة خالد يوسف قليلون في الوطن العربي بأسره. ألا ترى أننا خسرنا خالد يوسف المخرج؟
- بكل تأكيد، وأنا أيضاً خسرت خالد (المخرج)، لكنه سيعود سريعاً، كنت أستنفد فرصتي في السياسة منذ نزولي في الثورة بموجتيها، كي لا أشعر أنني أفلتُّ فرصة للمساهمة في صنع وطن جديد يليق بالأجيال القادمة ولم أفعل. ولم تأسرني فكرة مصلحتي الخاصة ولا مشروعي السينمائي، بل كنت أسير فكرة أن نصنع وطناً أفضل لأبنائنا، لكنني وصلت إلى نهاية الطريق الذي ظننته سيشهد تغييراً، معتقداً أن مشاركتي في الحياة السياسية ستشكل فارقاً وهو ما لم يحدث.

> هل أنت نادم؟
- لم يخالجني الندم يوماً، بل ربما كان تملكني الندم لو لم أفعل ذلك، بيد أنني سأعود إلى السينما بعد أن استنفدت جميع فرصي في السياسة من دون أن أشعر بتأنيب ضمير، وسأستمر في صنع أفلام تنحاز إلى الوطن وقضاياه.

> هل ستعتزل السياسة؟
- ليس اعتزالاً بالمعنى الحاد، لكن سأتراجع خطوة إلى الخلف من عالم السياسة إلى الفن، ولن أترشح مرة أخرى في مجلس النواب. هناك مهمة لا بد أن أنجزها تجاه من انتخبوني من أبناء دائرتي، سأكمل الدورة البرلمانية كي أنجز مشروعاتهم وأدافع عن حقوقهم بشكل محلي، طالما لم أستطع أن أنجز شيئاً لمصر كلاً.

> ما مشروعك السينمائي الذي ستعود به؟
- هو فيلم تاريخي عن «سقوط الأندلس»، وقد كتبت السيناريو الخاص به بالفعل، ومازال العمل في طور التحضير وعقد الاتفاق مع المنتج، ولم أختر بعد الممثلين. وسيتم التصوير في إسبانيا والمغرب. ويتناول الفيلم مرحلة آخر ملوك غرناطة أبو عبدالله ابن الأحمر.

بين الماضي والحاضر
> هل ستناقش الماضي والتاريخ أم ستربطه بالواقع العربي الحالي عبر إسقاط تاريخي؟
- بالفعل، لا يناقش الفيلم ماضياً بل يطرح قضايا ويعالج إشكاليات قائمة في الحاضر تتعلق بالمستقبل، فنحن نتحدث عن أسباب السقوط، بينما نعيش (الآن) تراجيديا السقوط التي تشبه سقوط العرب في الأندلس. ومن المهم التعرف إلى أسباب السقوط والنهوض على حد سواء. ويطرح الفيلم أيضاً الإشكاليات المتعلقة بالإسلام والاتهامات الموجهة له بأنه دين عنف ويصدّر الإرهاب، وأن ثقافتنا تنتمي إلى منظومة قيم عنيفة. سيناقش الفيلم هذه الإشكاليات التي تتعلق بالحاضر، بما فيها دخول العرب الأندلس وخروجهم منها، فالدخول كان من وجهة نظر العرب «فتحاً» ومن وجهة نظر الغرب «غزواً»، والخروج كان من وجهة نظر العرب «سقوطاً» بينما كان «حروب استرداد» من وجهة نظر الغرب. ومازالت هذه الإشكالية قائمة، بدليل أن العام 2003 ليس ببعيد، حين قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، وسميناه نحن «الغزو الأميركي» بينما أطلقت عليه أميركا «تصدير قيم الديموقراطية». وهنا تتطابق الأوضاع، لذا أطرح التساؤل: متى يتغير موقفك بتغير موقعك؟ إذاً الضمير العالمي لم يتوصل بعد إلى وضع خطوط فاصلة تفرّق بين ما هو «الغزو» وما هو «الفتح»، وما هو «الإشعاع الحضاري والتواصل الإنساني اللازم لتقدم البشرية» وما هو «الغزو والاقتحام والاغتصاب». يناقش الفيلم تلك الإشكالية المعلقة منذ قرون عدة.

> تعلمت السينما على يد يوسف شاهين. لماذا اختصك من دون غيرك بعصارة تجربته؟
- يمتلك شاهين مدرسة خاصة في «العلام»، فهو لا يختص شخصاً بعينه، لكنه يقتنع بالبعض ويدعوهم كي يعلمهم، وعلى من يلتحق بمدرسته أن يتعلم عبر الملاحظات وتأمل العمل، فهو لا يعطي دروساً مباشرة. عندما عملت معه للمرة الأولى كنت المساعد رقم 20 في فيلم «المهاجر»، وبعد هذا الفيلم فاجأني باختياري مساعداً أول في «المصير»، واكتشفت أنه رصدني بشكل أفضل مما رصدت نفسي، حيث جعلني شريكه في كتابة سيناريو الفيلم، وبعد الانتهاء من «المصير» أخبرني أنني مؤهل لكي أصبح مخرجاً.

> هل كان شاهين مؤمناً بك أكثر مما آمنت بنفسك؟
- هذا صحيح، وكانت إحدى نصائحه قبل خوض تجربتي الأولى في الإخراج: «أكثر شيء يجرحك.. اصنع به فيلمك الأول، لأنك ستتمكن من التعبير عنه بصدقية». وكان جرحي الأكبر حينها هي حرب العراق والكويت التي تلاها تدمير العراق. ولأنني تربيت على مبادئ القومية العربية وفجأة وجدت أمامي بلدين عربيين يتصارعان ويتقاتلان، وتتدخل أميركا وتدمر المنطقة تحت دعوى التحرير، كان ذلك «جرحي الغائر»، لذا عبّرت عنه في فيلمي الأول «العاصفة»، عملاً بنصيحة شاهين. وكان من طبائع الأمور أن يكون الفيلم ذا طابع سياسي، وقدمت عبره المخطط الأميركي الكامل لتقسيم المنطقة قبل أن تظهر بوادره بسنوات.

> لم تقع في بعض المآخذ التي وقع فيها شاهين في أفلامه على رغم كونك تعملت السينما على يديه، حيث كان يصعب على الجمهور فهم بعض أفلامه؟ كيف تجنبت ذلك؟
- لأنني قادم من شارع السياسة، التي تعني الالتحام بالجماهير والتواصل معها باللغة التي تفهمها، وكانت تلك هي معادلتي، حيث كنت أبحث عن الخطاب الذي يلائم الناس ويفهمونه ويصل إليهم بسهولة بعيداً من الخطب الرنانة أو الأحاديث المقعرة، وعندما صنعت فناً قمت بعمله على النسق ذاته.

استشراف مستقبل ما...
> كيف استشرفت المستقبل من خلال أفلامك قبل حدوثه بسنوات؟
- تربيت على التحليل السياسي للواقع، ورصدت انفجاراً وشيكاً. لكن ماهية ومشاهد هذا الانفجار هي نتاج خيال المبدع، لذا جاءت المشاهد التي صنعتها عبر أفلامي مطابقة لما حدث، ومبعث هذا التطابق هو أن تحليلي السياسي كان صحيحاً، سانده توافر خيال خصب، فخرجت الرؤية المستقبلية متطابقة مع الواقع الذي حدث بعدها بسنوات.

> بسبب هذا الاستشراف اتُّهمت بأنك تشوه صورة مصر من خلال أفلامك؟
- طاولتني الاتهامات الممكنة وغير الممكنة، منها أنني أشوه الواقع وأسيء إلى صورة مصر وسُمْعتها وأنشر الإباحية، وأسباب ذلك أن مشروعي السينمائي كان ناجحاً بشكل لافت لدى الجماهير، ولم يتمكنوا من التصدي له، وهذا أصاب الكثير بالضيق، سواء الدولة والنظام أو الإخوان المسلمون والتيارات السلفية وكان لا بد من محاربته، فلو كنت أصنع أفلاماً لا يفهمها سوى المثقفين ما كانوا اهتموا بها، لكنني صنعت أفلاماً تذهب الملايين لمشاهدتها لأنها «أفلام خالد يوسف»، فتصدوا لي عبر حملة تشويه واتهامات استمرت سنوات قبل الثورة وامتدت بعدها وحتى الآن.

> بخلاف شاهين، أيٌّ من مخرجي السينما المصرية يعتبره خالد يوسف ملهماً له؟
- المخرج عاطف الطيب (وأشار إلى صورته المعلقة على جدار مكتبه). يوسف شاهين هو أستاذي، لكن عاطف الطيب هو الأقرب إلي وإلى السينما التي أصنعها، من حيث التوجه والانتماء إلى الطبقة الوسطى ودفاعه المستميت عنها، كما أن أفلامه تتصل بالمهمشين والبسطاء أكثر من أفلام شاهين.

> من الكاتب الذي تطمح إلى تحويل أعماله أفلاماً؟
- نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وتعاقدت بالفعل على إحدى قصص يوسف إدريس لتحويلها فيلماً، وهي «سره الباتع»، وستكون فيلماً تاريخياً حول الحملة الفرنسية، وسأصنعه عقب فيلم «سقوط الأندلس»، بينما كل أعمال نجيب محفوظ جديرة بأن يتم تحويلها إلى عشرات من الأفلام، فكل رواية يمكن أن تصنع عشرات الرؤى السينمائية المختلفة.

> لو خيرت بين أعمال محفوظ فأيها ستختار؟
- «أولاد حارتنا»، لأنها رواية تعرضت للظلم والتشويه، ونعتوها بـ «الكفر» بينما هي عمل مبدع يقدم معالجة أدبية بديعة لقصة الخلق.

> هل حلت دول أخرى محل مصر في صناعة السينما العربية؟
- كانت السينما هي المصدر الثاني للدخل القـــومي، والسينما والفن هي التي صنعـــت لمصر ثقلاً في الوجدان العربي، وكان تأثيرها أكبر من ثورة 23 تموز (يوليو) (التي أنتمي إليها)، ثم انسحب هذا التأثير وتقلـــص خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، لكــن لم تحل بلد محـــل مصر في السينما، فلا توجد دولة لديها الزخم الثقافي والحضاري ذاته. ولست ضد تميز الدول العربية في الإنتاج الفني والسينمائي، بل اعتبرها ظاهرة إيجـــابية، لأننا أمة عربيـــة واحدة وثقافة واحدة، وكلمــا انتشر الفن وطاقات التنوير في الوطــــن العربي كان مستقبلنا أفضل، فهذا الأمـــر لا يزعجني على الإطلاق، لكن ما يضايقني فقط هو تقلص دور مصر.