إياد أبو شقرا

 ظروف انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي تسلّم أول من أمس رسميًا مقاليد السلطة، سلطت الضوء على النظام الانتخابي في الولايات المتحدة. ولكن، بعيدًا عن أميركا، يثير هذا الموضوع جدلاً لا ينتهي في لبنان، البلد العربي الصغير الذي يتباهى بأنه «دولة ديمقراطية» تقوم على «المؤسسات» والتوافق أو الوفاق.
يتساءل كثيرون عن الحكمة من آليات النظام الانتخابي الأميركي الذي يرجّح الأصوات الانتخابية للولايات على مجموع الأصوات الشعبية التي يتنازعها المرشحان الرئيسيان. لكن الواقع أن الولايات المتحدة دولة اتحادية (فيدرالية)، ومن ثم يستند التمثيل السياسي فيها إلى مبدأين أساسيين لا تقوم ديمقراطية سليمة في غيابهما:
- الأول هو الديمقراطية المجردة من حيث تعني تغليب الأكثرية العددية على الأقلية. وهذا ما يتجسّد عبر مجلس النواب الذي فيه تتمثل الولايات وفق تعداد سكانها.
- والثاني هو احترام الوحدة الوطنية في مجتمع تعدّدي، حيث لا يجوز أن يحظى أبناء الولايات الكبيرة بنفوذ أكثر من أقرانهم في الولايات الصغيرة أمام دستور اتحادي يحترم ويعامل الجميع بالعدل والمساواة. وهذا المبدأ يتجسّد في مجلس الشيوخ حيث يتساوى تمثيل الولايات (لكل منها شيخان) بغض النظر عن عدد سكانها.
الصيغة المُثلى هذه أسهمت بجعل النظام السياسي الأميركي ككل أحد أرقى الأنظمة في العالم، ولا سيما أن البلاد نمت وتوسّعت جغرافيًا باطراد منذ القرن الـ16 واجتذبت أمواجًا من المهاجرين من شتى أنحاء المعمورة. وعبر السنين والعقود اكتسبت كل ولاية تبعًا لبيئتها الطبيعية وثرواتها الاقتصادية مزايا معينة، على الرغم من حرية الهجرات الداخلية ويُسرها.
حجم لبنان، طبعًا، لا يقاس بحجم أميركا، وتجربته الديمقراطية متواضعة جدًا مع ما سنّه «آباء أميركا المؤسسون» من تشريعات وتوافقات، مع أن هذه التشريعات لم تحل دون نشوب حرب أهلية مدمّرة بين 1861 و1865 ما زالت رواسبها موجودة حتى اليوم. ولبنان ظهر ككيان سياسي شبه مستقل بعد حرب أهلية حدثت عام 1860 وبقيت رواسب الماضي أيضًا موجودة في ثقافته السياسية، ومثل أميركا تغيّرت حدوده منذ ذلك الحين. غير أن الفارق بين الحالتين الأميركية واللبنانية، بجانب الحجم والثقل الدولي، هو أن الأميركيين تعلّموا من تجاربهم واحترموا مؤسساتهم وكفّوا عن خداع أنفسهم، بينما ترفض الطبقة السياسية في لبنان التعلم من أخطائها.
في أميركا تولى الرئاسة حتى الآن خمسة رؤساء حاز منافسوهم من الأصوات الشعبية أكثر مما حازوه، بيد أن احترام الدستور مضى بالأمور إلى حيث يجب أن تمضي. ورغم التعدّدية الديموغرافية الهائلة في بلاد يسكنها قرابة 320 مليون نسمة ظل هناك قدر مقبول جدًا من التعايش بين مكوّنات الشعب، ولا تجد أحدًا يطالب موسميًا بقانون انتخابي جديد على قياسه طمعًا بزيادة حصة طائفته أو عرقيته، ولا أحد يعمد إلى الاستقواء بالخارج أو يراهن على ذلك عندما تختلّ المعادلات الدولية.
أما في لبنان فالوضع مختلف. هنا يتعامل الدستور أصلاً مع اللبنانيين كأفراد في جماعات طائفية لا كمواطنين. ولقد خصّص «نهائيًا» لكل طائفة من أصل 17 طائفة دينية ما ارتؤي أنه حصة تعكس حجمها العددي مع أن هذا أمر متغيّر دائمًا وخلافي دائمًا. ثم إنه يمكن للفرد اللبناني أن يمضي حياته كلها ضمن «حيّز» طائفته من دون أن يتفاعل مع أبناء الطوائف الأخرى، بدءًا من الأحوال الشخصية (الولادة والوفاة والميراث والزواج) وانتهاء بالتعليم والطبابة ومجالات العمل. وبناءً عليه، يصحّ النظر إلى الطوائف اللبنانية على أنها «ولايات» قائمة بذاتها، لها قادتها وأحزابها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها... بل وأنديتها الرياضية.
إزاء هذا الوضع، ومع إدراك رواسب الماضي، رافق اللبنانيين هاجسان هما: الشعور بالغبن عند المسلمين الذين يرون أنهم الغالبية التي مُنعت من التمتع بامتيازات مستحقة إبان الانتداب الفرنسي (1920 - 1943)، والشعور بالخوف عند المسيحيين من «البحر الإسلامي» المتلاطم المُحيط بهم، والذي دفع أصلاً لتمييز لبنان عن محيطه أولاً عام 1861 بنظام خاص هو «المتصرفية» (نظام حكم ذاتي بإشراف الدولة العثمانية والقوى الأوروبية الكبرى) لضمان حماية المسيحيين. وبعد ذلك تبلور بكيان لبنان الحالي «لبنان الكبير» برئيس مسيحي وغالبية برلمانية مسيحية بنسبة 6 مقابل 5 حتى «اتفاق الطائف» عام 1989.
اليوم، بعد الانتهاء من «الفراغ الرئاسي» وتشكيل الحكومة الجديدة، لا بد من انتخاب برلمان جديد يحل محل البرلمان الممدّد له (انتهت ولايته عام 2013)، ولكنْ ثمة خلاف على قانون انتخاب يحل محل القانون الأكثري الحالي الذي يرفضه الجميع تقريبًا لكنهم لا يتوافقون على بديل له. وحقًا ثمة خيارات كثيرة مطروحة راهنًا تتراوح بين «النسبية الكاملة»، كما يريد «حزب الله» ومناصروه وأتباعه - وهو أمر مفهوم في ظل هيمنته المسلحة على البلاد - و«القانون الأرثوذكسي» الذي يدعو لأن تنتخب كل طائفة نوابها، مرورًا بأشكال مختلفة من القوانين «المختلطة» بين الأكثري والنسبي. أما الخيار الذي يبدو أنه مغيّب عمدًا وبإصرار فهو ذلك القائم على وجود برلمان من مجلسين: مجلس شيوخ تتساوى فيه الطوائف ويكون لها فيه حق النقض في المسائل التي تمسّها. ومجلس نواب لا طائفي يُنتخَب أعضاؤه بالنسبية فيشجّع نمو الحياة الحزبية بعد إزالة هاجسي «الغبن الإسلامي» و«الخوف المسيحي».
الإصرار على تغييب فكرة مجلس الشيوخ غير مستغرب في ظل مواصلة اللبنانيين الرهان على المتغيرات الدولية، مع أن دستور «الطائف» نص صراحة على «اللامركزية الإدارية الموسّعة» و«مجلس شيوخ». والسبب أن القيادات اللبنانية دأبت على المطالبة بالعدالة فقط عندما تحس أنها ستخسر، بينما تسعى إلى الهيمنة عندما تستشعر النصر. وبالتالي، في ظل ذهنية كهذه، تغدو أي هيئة مخوّلة بلجم القوي وحفظ حق الضعيف مرفوضة... لأن الكل يأمل ذات يوم أن يكون القوي الذي يحتكر الوطن ويلغي الآخرين، وحتى الضعيف مرحليًا ينتظر الفرصة المواتية للرهان من جديد على الخارج لتصفية حساباته الداخلية.
باختصار، ها هي الديمقراطية الانتخابية على الطريقة اللبنانية!