عادل درويش

 مناسبات تاريخية هذا الأسبوع وردود الفعل عليها من كل من الصحافتين المؤسسة الكلاسيكية، والجديدة والاجتماعية؛ ومن المؤسسة الليبرالية اليسارية للمثقفين، هي مفتاح القارئ لمضمون من العنوان.
خطاب رئيسة وزراء بريطانيا في قاعة لانكاستر هاوس حول خطة طريق المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، التي تضع مصالح الفقراء والناس العاديين أولاً، ثم خطابها في منتدى دافوس بعد يومين وتحذيرها مؤسسات العولمة من الجشع والتهرب من الضرائب، والثراء على حساب من يكدحون من أجل لقمة العيش، ثم خطاب تنصيب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية دونالد ترمب.
ردود فعل المؤسسات التي ذكرتها ونظرة المثقفين الدونية للناس العاديين، عكستا مدى عزلتهم عن العالم الواقعي، وبقائهم في فقاعة عالم افتراضي متواز. فقاعة لم يتعلموا منها خسارتهم استفتاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وخسارة مرشحتهم المفضلة هيلاري كلينتون لسياسة إدارة أوباما بسحرها عالمهم بالكلام المعسول، والخطابة الرنانة بلا أفعال إيجابية، وتغذية قطط المؤسسة الحاكمة السمان من أموال دافعي الضرائب الفقراء.
ليسامحني القارئ في تكرار تعريفي لمفردات كالصحافة، وهي وسائل اتصال مطبوعة ومرئية ومسموعة؛ والإلكترونية والجديدة في شكل النقل الحي بالأسلاك أو الفضاء الأثيري، ووسائل التواصل الاجتماعي. لا أستخدم «إعلام» أو «وسائل إعلام». إشكالية لم تحلها صناعة الرأي العام وصك الكلمات في البلدان الناطقة بالعربية.
ما أقصده بالصحافة، هو ما يسميه العرب «الإعلام». كلمة أخرى جوهرية لهذا المقال، الليبراتالية والليبراتاريين libertarians، ترجمة بعض العرب غير دقيقة «التحررية والتحرريين». فالتحررية مفهوم ارتبط بالتمرد على القيم التقليدية. لكن الليبراتاليين غير الليبراليين. الليبراتية فلسفة يمين المحافظين، التي تقدس الفرد وحريته في الاختيار، وحرية السوق وتقليص دور الحكومة؛ ومعظم هؤلاء من صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، ومن صوتوا للمرشح الرئاسي الجمهوري ترمب رافضين الاستمرار في سياسية الإدارة الديمقراطية. وهم في تصادم مع الليبراليين (والتحرريين بالمفهوم اللغوي) لتمرد الفئة الثانية على النمط الاجتماعي المتمسك بالتقاليد التي غالبًا ما يتمسك بها الليبراتاريون.
منذ خطاب الزعيمة البريطانية الثلاثاء، الذي أثلج صدور الوطنيين والليبراتاريين، ومن ضمنهم الأصوليون الديمقراطيون democratic puritans (الذين رفضوا الاتحاد الأوروبي لا لأسباب اقتصادية بقدر ما هو سبب مبدئي، وهو أوتوقراطية مفوضية الاتحاد بصفتها مؤسسة غير ديمقراطية، غير منتخبة غير قابلة للمحاسبة البرلمانية)، بينما شنت المؤسسة الليبرالية ومثقفو اليسار هجومًا حادًا على الخطاب.
أما شبكات التلفزيون والإذاعة في الصحافة الكلاسيكية البريطانية، والأوروبية، فصعّدت من حملة التشكيك والهجوم، ثم إعادة تكرار الجدل الذي أثير العام الماضي استعدادًا لاستفتاء الاتحاد الأوروبي. تقارير الشبكات ونوعية الضيوف والخبراء الذين تستضيفهم تهدف للتشكيك، وإقناع الرأي العام بأن بلادهم ستكون الطرف الخاسر، والأمل، مثلما أشك، هو عكس إرادة الشعب التي عبر عنها (بأغلبية مليون و400 ألف صوت) في استفتاء العام الماضي.
وتكاد تكون التغطية من هذه الشبكات الأوروبية والبريطانية ونظيرتها الأميركية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، والمحاولة، بالتنسيق وربما بالصدفة أو التوازي في تفكير الجماعات المنتفعة مع مؤسسات المخابرات، في منع تنصيب الفائز في الانتخابات كالرئيس ترمب بتسريب ملفات ومعلومات تسيء للسمعة، وإعادة بث عبارات ناقصة أو منتقاة خارج السياق للإيحاء للمتفرج والمستمع أن اليمين الجمهوري عنصري، معادٍ للمهاجرين، ومعادٍ للمسلمين، وينسق سرًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تشيطنه مؤسسة صنع الرأي العام في الغرب عمومًا.
وربما يلاحظ المتابعون للصحافة البريطانية، أن الصحافة المطبوعة في مجملها تأخذ موقفًا مغايرًا لشبكات التلفزيون، وتدعم بقوة خيار الأغلبية بالاستقلال عن بروكسل (باستثناء «الغارديان» و«الفينانشيال تايمز»، وتوزيعهما مجتمعتين يقارب ثلث توزيع «التايمز»).
وموقف هذه الصحف غالبًا تجاري أكثر منه مبدئيًا؛ لأنه بعكس مستهلك الإذاعة والتلفزيون، فإن قارئ الصحف، مثل الناخب، حر الإرادة، يذهب طواعية وينفق نقوده لشراء الصحف كل صباح.
أرقام توزيع الصحف المطبوعة حسب مواقفها السياسية مقياس حقيقي للرأي العام أكثر دقة من استطلاعات الرأي؛ لأنها تعبر عن مواقف القارئ وتوجهاته.
اخترت عنوان المقال لأن أرقام توزيع الصحف المؤيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل الداعمة للبقاء تتماشى مع نتيجة الاستفتاء، ومع استطلاعات الرأي العام عقب خطاب رئيسة الوزراء بزيادة لا تناقص في الثقة بموقف الزعيمة البريطانية وبنجاح البلاد في معركة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ما يربط المفهومين عبر الأطلسي موقف الليبراتاريين الأميركيين من «البريكسيت» (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) الذي يرونه مصدر إلهام «لثورتهم» على المؤسسة الحاكمة، التي اغتنت وكبرت على حساب البسطاء والفقراء، مثلما عبر قائد ثورة الأصوات بطلهم المنقذ دونالد ترمب في خطاب تنصيبه الرئاسي «سنأخذ السلطة من العاصمة التي تضخمت على حسابكم، ونعيدها إلى الشعب».
صدى لرونالد ويلسون ريغان في تنصيبه الرئيس الأربعين عام 1981 «لا تظنوا أن الحكومة ستحل المشكلة؛ فالمشكلة هي الحكومة».
في مقابلة أجراها وزير المعارف السابق مايكل غوف، وهو من زعماء حملة ترك الاتحاد الأوروبي، قال الرئيس الـ45 عشية تنصيبه لصحيفة «التايمز» (الأشهر ارتباطًا عالميًا بصورة بريطانيا) إنه ابن مهاجرة اسكوتلندية يعشق بريطانيا والملكة إليزابيث، وأن المحور الأنغلوساكسوني سيكون الأهم؛ في محاربة الإرهاب وفي التجارة.
تحالف رئيسة وزراء بريطانية مع زعيم أميركي بمفاهيم الليبراتاريين، كما شهد التاريخ بين مارغريت ثاتشر وريغان، يهمش البيروقراطية الحكومية ويعيد السلطة للشعب، ويقلص الضرائب لحساب الفرد، أمور تزعج المؤسسة الليبرالية الصحافية، التي لم تترك في القاموس صفة سلبية منفرة للرأي العام إلا ولصقتها بالرئيس الخامس والأربعين يوم تنصيبه؛ بينما شهدت المدن الأميركية والغربية الكبرى أمس (السبت) مظاهرات تحتج على شخص الرئيس الأميركي، وعلى سياسات لم يعلنها بعد. ولذا؛ أتوقع أن يشهد 2017 حملات اليسار الليبرالي والمؤسسة الصحافية لمنع تطوير علاقة الرئيس الأميركي بالزعيمة البريطانية على نمط ثاتشري ريغاني.