سمير عطا الله

كتب عدد من المراسلين الكبار رسائل صحافية من مكان واحد، عن حدث واحد، عن تطورات واحدة. بعد حين، نُسي الحدث، ونُسي أبطاله ونُسيت آثاره، وبقي عدد محدود من الرسائل. لقد تحولت إلى قراءة تاريخية عميقة. وهي قسمان: إما مرجعية تاريخية يعاد إليها في كل الدراسات، وإما مادة أدبية جميلة، ينتهي زمنها ولا ينتهي إبداعها.
ربما كان المراسل «الأديب» أكثر بقاء من المراسل «الصحافي» الذي يُقرأ في حينه، ويَلمع في حينه، ويشحب في حينه. هناك خمسة من الكبار المتفق عليهم عالميًا: الأميركي همنغواي، الهندي نايبول، الفرنسي أندريه مالرو، الكولومبي ماركيز، والبولندي كابوشنسكي. خمسة «مراسلين» تحولوا إلى خمسة عمالقة، في مجموعة حروب، العالمية الثانية، والهند الصينية، فيما حول ماركيز ونايبول وكابوشنسكي الحروب الصغيرة إلى حروب كبرى أدبيًا. ما «مصادر» المراسلين؟ طبعًا الجبهات. همنغواي ومالرو في الحرب الأهلية الإسبانية. والناس ومشاهد الجرحى وأودية الجثث. لكن الذي دفعني إلى كتابة هذه الزاوية اليوم، تلك البراعة المذهلة عند في. إس. نايبول الذي اعتمد في رسائله الكبرى على ما يزدريه المراسلون الآخرون كمرجع: الصحف المحلية.
في بلاد الحزب الواحد، أو الرأي الواحد، أو اللارأي إطلاقًا، كان يعثر في الصحف على مادة ثرية في دراسة أحوال الشعوب والبلدان. الصحيفة التي لا يقرأها أحد، ولا حتى «يفلشها» أحد بدافع الفضول، كان يعثر فيها على حكاية اجتماعية تعبّر عن وضع كامل. خلال زيارة إلى كينشاسا، لفت نظره في الصحيفة المحلية قصة عن «أرواح الجدود» التي تحوم حول البيوت في الأحياء الغنية.
لم يعتبر أن المسألة مسألة خرافات شائعة جدًا في أفريقيا، خصوصًا في الكونغو. وقرر أن يتابع القصة التي تنشر في الصفحات الداخلية من صحيفة «ألِما»، وفي أمكنة غير بارزة. وبعد أيام، تبين أن الذي يدبر «أرواح الجدود» شركة عقارية تنوي إقامة مجمع سكني جديد، لكن الشركة كانت على غباء شديد. فبدل أن يهرب السكان من «أرواح جدودهم، تمسكوا بالمنازل التي يمكنهم فيها البقاء على اتصال!».
كانت بيروت مدينة المراسلين المفضلة، بسبب الصحافة اليومية التي تمثل معظم الدول العربية، وتنقل تصريحات السياسيين العرب، وتعكس مواقفهم. ولكي يزداد الأمر تسهيلاً، كانت تصدر في المدينة «وكالات» تترجم الصحف إلى الإنجليزية كل يوم. لكن نصف قرن من كونها مركزًا عالميًا، لم يؤدِّ إلى ظهور مراسل «أدبي» عالمي. وقد عوضنا عن المسألة باشتهار أهم جاسوس سوفياتي، هو البريطاني كيم فيلبي، وأهم جاسوس أميركي (مايلز كوبلاند) صاحب «لعبة الأمم». ويقول الراحل سعيد أبو الريش، في مؤلفه المشوق «فندق السان جورج»، إنهما كانا يتبادلان المعلومات والمصادر.