عرفان نظام الدين

الأخطار التي عصفت بالعالم العربي ما زالت تهدد المصير والكيانات والمجتمعات بعد ٦ سنوات عجاف من حروب وحوادث دامية خربت ودمرت وقتلت الآلاف وقلبت الأوضاع رأساً على عقب.

وحتى لا نمضي في سياسة الإنكار ورفض الاعتراف بالواقع المزري الذي يعيشه العرب، لا بد من التشديد على أن ما حصل كان متوقعاً على رغم هول المفاجآت لأنه لو لم يحصل قبل سنوات لحصل اليوم، ولو لم يقع اليوم فإنه سيقع غداً أو بعد سنة أو أكثر، فما بني على باطل فهو باطل، وما تعاقب على الأمة من حوادث وانقلابات واضطرابات وخلافات وتهاون لا نتيجة له إلا بعض ما نعانيه الآن، بل يمكن الجزم بأنه كان أقل خطورة من التوقعات عند الأخذ في الاعتبار مفاعيل المؤامرات الصهيونية على العرب جميعاً والمطامع الأجنبية ونهب الثروات من الداخل والخارج وتحويل الشعوب إلى متسولين ولاجئين ونازحين عن ديارهم بحثاً عن مأوى ولقمة عيش ودواء وأمان لهم ولأطفالهم.

حتى الإرهاب، بكل أشكاله، ما كان ليتمكن من جسد الأمة ويشوه صورة الإسلام لولا البيئة الحاضنة والأجواء المسهلة لانتشار التطرّف ونشر ثقافة الكراهية والتكفير وتحريم التفكير. ويتحمل المسؤولية في هذا الأمر الجلل كل مسؤول حاكم ومواطن محكوم تغاضى عن الأخطاء وسكت عن الخطايا وبلع لسانه وهو جائع خائف على نفسه وأهله.

هذه المسؤولية المتدرجة والمنضوية في سلسلة حلقات تبدأ من السياسة العامة للدولة والخطاب السياسي والديني في الإعلام والجامع والجامعات والمدارس والأحزاب، وصولاً إلى البيت وتقصير الأهل والتفلت من القيم والعادات والتربية الصالحة بعدما تخلى أولياء الأمور عن مسؤولياتهم وتغافلوا عن توجيه أولادهم وتربيتهم على الاعتدال ونبذ العنف وقيم الإسلام القائم على الوسطية والمودة والكلمة الطيبة.

وعندما نقلب صفحات الذكريات، نصاب بالدهشة والأسى ونحن نشهد حالات تخلينا عن عظمة القيم التي عاش عليها الآباء والأجداد بلا تطرف ولا تحريض وإثارة للأحقاد ولا تفرقة بين إنسان وآخر مهما كان دينه أو عرقه أو مستواه الاجتماعي والمادي ليعيش الجميع في مجتمع آمن.

وقد يبدو هذا الطرح مثالياً في هذه المرحلة المظلمة من تاريخ أمتنا التي تشهد الضياع والانقسام والفتن والخوف من مستقبل غامض حافل بأخطار التفتيت ومحو هوية الأمة وتركيعها لتتحول إلى أمة كرام على مائدة اللئام صاغرة... بل وفي بعض الأحيان مشاركة في ذبح أبنائها تشبهاً بالقط الذي كان يتلذذ بطعم دمه وهو يلحس المبرد ظناً منه أنه يضخ له شراباً لذيذاً.

لكن الواقع يؤكد أن الطرح ليس مثالياً لأن الأخطار الداهمة التي أشرت إليها تكاد لا تذكر أمام الأخطر المقبل، ما يفرض علينا دق ناقوس الخطر لعل هناك من يسمع ويتعظ من كلمة حق لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير في أبناء أمتنا إن لم يسمعوها.

ولهذا لم يعد جائزاً السكوت على ما يجري لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وقد أدمنّا السكوت، بكل أسف، مخدرات الشياطين الخرس ولم نعد نجرؤ على الكلام إن لم نكن قد فقدنا النطق أصلاً.

فهناك الكثير من الآفات والمشكلات والممارسات الخاطئة والخطايا التي يشتكي منها الناس ويتهامسون عند الحديث عنها من دون أن يرفعوا أصواتهم، خوفاً من مصير أسود لأن الأمر الواقع المفروض بات يفرض على كل مواطن أن يختار بين الحرية والإرهاب وبين الحرية والأمن والتطرف والفوضى. هذا المواطن المغلوب على أمره وقع أسيراً بين سندان الأنظمة ومطرقة الإرهاب التي تحولت سيوف وسكاكين ذبح وإعدامات وحشية، حرباً وإغراقاً ودهساً وسيارات ملغومة وقتلاً جماعياً لمدنيين أبرياء، مع فرض أنظمة بالية لا علاقة لها بالدين على كل إنسان يقع تحت سلطتها من دون أن يسمح له حتى بالتنفس، فكيف بإبداء الرأي أو الاحتجاج والرفض.

إلا أن الواجب يفرض علينا إطلاق صرخة حق لرفض هذا الواقع المزري المفروض بقوة الإرهاب بكل أشكاله، صرخة يجب أن يشارك فيها كل إنسان حر ليسمعها القاصي والداني وهي: نعم للحرية... ولا وألف لا للإرهاب.

فمعظم شعوب العالم تعيش بأمان وتنعم بالاستقرار وفق معادلة الأمن والحريّة المسؤولة تحت راية القانون والمصلحة العامة والمساواة بين المواطنين مهما كانت أديانهم وعقائدهم وأعراقهم وأصولهم، فلماذا يحرم هذا الحق على المواطن العربي وتشهر في وجهه «فزاعة» الخيار الآخر، أي سيطرة الإرهاب في حال حصوله على الحرية.

فنحن ندرك تماماً أن الإنسان الحر هو الأقدر على مجابهة الأخطار، من أي جهة جاءت، والتصدي للإرهاب والمساهمة في الدفاع عن وطنه ومنع أي ظاهرة تشتت المجتمع وتثير الفتن والأحقاد.

لكن هذه الصرخة سيذهب صداها في وادٍ إن لم تتبعها خطوات عملية تحصن المجتمع وتصف العلاج الشافي للعلل واجتثاث جذور الإرهاب وإزالة المبررات التي يستخدمها الإرهابيون ومن يدعمهم للوصول إلى مبتغاهم وتشويه صورة الإسلام، دين المحبة والتسامح.

هذه الخطوات تحتاج إلى مصارحة وحوار بين لجنة حكماء لوضع خريطة طريق تنقذ الأمة من مصاب جلل قد يعصف بها في حال عدم المسارعة لمعالجة الخلل وبدء مسيرة الإصلاح. وهنا بعض المقترحات الأولية عن البنود الضرورية للبدء بها فوراً:

- تعميم سياسة الانفتاح والتأكيد على المساواة في الحقوق والواجبات وسيادة القانون.

- إصلاح الخطاب السياسي والديني وتنقيته من أي شائبة أو تحريض، وتحريم أي دعوة إلى التطرف والعنف والإساءة للأديان السماوية والمؤمنين بها وإشاعة أجواء المودة والتضامن لحض المكونات الوطنية على المساهمة في مواجهة الحرب المعلنة على الأمة.

- إيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة آفة الفقر، علماً أن أكثر من نصف السكان العرب هم تحت خط الفقر.

- نشر ثقافة التسامح وتعديل مناهج التعليم لحذف أية مواد مسيئة، ووضع قوانين لمحاسبة كل من يثير الفتن ويدعو إلى العنف أو يشجع على التطرف وينشر الخطاب التكفيري ضد كل من يبدي رأياً أو يرتكب خطأ من غير قصد.

- مشاركة الإعلام في دعوة الخير ونبذ العنف ومنع الترويج للتطرف أو إفساح المجال للمغرضين، وإعادة النظر في الترخيص لمؤسسات إعلامية تنامت كالفطر في السماء العربية وخصصت كل وقتها لنبش الأحقاد ونشر الكراهية بين مكونات الأمة، وهي قنوات ومطبوعات تعود إلى مختلف الأديان والطوائف.

- دراسة آثار «فلتان» وسائل التواصل الاجتماعي وانعكاساتها، وإتاحتها الفرص لمن هب ودب للترويج لمبادئ غريبة عن مجتمعاتنا ومسيئة للقيم والمبادئ الدينية والاجتماعية من مختلف الاتجاهات والمشارب.

- مطالبة الدول الأجنبية المساهمة في البحث عن حلول لمشكلات المنطقة وأزماتها للحد من هذه الظاهرة واستخدامها كذريعة للترويج لأعمالها. ويجب إيصال رسالة إلى هذه الدول بأنها تخطئ كثيراً إذا كانت تعتقد أن الأخطار لن تصل إليها.

- التسامح وإيجاد وسائل ترفيه بريء ومجالات للترويح عن النفس من متاعب الحياة وقسوة الطقس ليتمتع الناس، والشباب في شكل خاص، بها في وطنهم بدلاً من البحث عنها في بلاد أخرى حيث يتعرضون لأخطار كما جرى لضحايا إرهاب إسطنبول وغيرها، بسبب الإجراءات والقمع والتشدد في معالجة انعكاسات مشكلة الفراغ وغياب الوسائل المرضية.

هذا غيض من فيض الممكن والمتاح والمطلوب لنجاح الدعوة إلى حل معضلة الخيار بين الحرية والإرهاب واستبدالها بصرخة: نعم للحرية... لا للإرهاب.