عبدالله ناصر العتيبي

< تحدثت في مقالتي الأسبوع الماضي عن عدد من الأفكار المتعلقة بإنقاذ منصات الورق الصحافية وانتشالها من وضعها المأسوي الحالي إلى وضع جديد تستطيع من خلاله أن ترسم نهايتها وهي في كامل عافيتها. ليس إنقاذاً مستمراً وعلى طول الخط كما قد يظن القارئ، وإنما هي فترة زمنية انتقالية حتى التحول الكامل إلى صيغة الإعلام «المرقمن» المرئي أو المقروء.

كلنا نعرف أن المنصة الورقية في عالم الصحافة تعيش آخر أيامها، وبالتالي فإنه أصبح لزاماً على الصحافيين في الفترة الحالية ألا ينتموا إليها بالكامل، وأن يبحثوا لها في نفس الوقت عن أفكار مريحة تسمح لها بالحياة الصحية السليمة في ما تبقى لها من عمر، لتموت واقفة شامخة، بدلاً من أن تحترق على حين غرة وتحرق معها المنتمين إليها والمدافعين عنها، وكأنها هي وسيلة الإخبار الوحيدة.

اليوم سأتناول الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني وحسابات الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي، وسأحاول أن أجيب عن السؤال الكبير: لماذا المواطن السعودي غير راضٍ عن الإعلام السعودي الموجه للداخل والإعلام السعودي الموجه للخارج؟ لكن قبل أن أجيب سأسأل سؤالاً افتراضياً معاكساً: هل هناك أحد على كوكب الأرض راضٍ عن الإعلام والسياسات الإعلامية في بلده؟

المشاهد أو القارئ أو الإنسان المتوسط يقوم بعملية إعلامية محدودة في محيطه الاجتماعي، فيقول ما يريد أو يسمع ما يريد عبر فمه مباشرة أو من خلال جهاز هاتفه، ويسعى عندما تكبر الدائرة إلى أن يبقى دائماً تحت مظلة الأفواه والآذان التي تقول له ما يريد وتسمع منه ما يريد. الإنسان المتوسط ينتمي إلى الإعلام الذي يتناسب مع أفكاره وآرائه ويتنافر مع الإعلام المخالف له، هذه طبيعة بشرية لا يمكن التدخل فيها أو تغييرها عن مسارها. ونستطيع بالتفاتة صغيرة أن نلاحظ أن بعض متوسطات الناس وعطفاً على هذه الطبيعة البشرية باتوا في الفترة الأخيرة يعتقدون أن وسائل التواصل الاجتماعي هي الإعلام النزيه من جهة والحقيقي من جهة أخرى، وهذا تصور وهمي، مرده أنهم صاروا يستطيعون من خلال هذا الإعلام أن «يخبروا» و«يعلّقوا» على الخبر، و«ويضفوا» عليه الأهمية من عدمها، إضافة إلى أنهم - ومن خلال المتابعة المنتقاة - صاروا فقط يستمعون لأخبار وآراء من يشبههم في التوجه والفكر، أصبحت هذه الوسائل بمختصر العبارة «أفواه متكلمة» و«آذان صاغية».

وسائل التواصل الاجتماعي لا تقدم إعلاماً حقيقياً كما نعرف، وإنما هي في العادة تتبنى الإعلام المنحاز الذي لا «رأي مقابل» فيه، إضافة إلى أنها ملعب واسع للأخبار غير المؤكدة والأحداث الملفقة لأجندات اجتماعية أو دينية أو سياسية.

هي وسيلة تعبير بامتياز... هذا صحيح، فالجميع يستطيعون من خلالها أن ينقلوا وجهات نظرهم وآرائهم وأفكارهم كما هي، لكن الإعلام ليس تعبيراً عن الرأي فقط، خصوصاً إذا منع الرأي الآخر المقابل له من الظهور. الإعلام هو في بنائه الأساس إخبار موثوق عن حدث كائن، وتبنٍ للاحتمالات المحيطة بهذا الحدث كافة.

الناس يريدون إعلاماً يشبههم ويؤكد ما يعتقدونه ويتبنى مواقفهم وتوجهاتهم، لكن هل الناس هم كتلة «ناس» واحدة، أم ذوو مشارب مختلفة واعتقادات مختلفة ومواقف وتوجهات مختلفة؟

لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أن تنجح بتبني فكر معين، لأنها في مقابل أن تكسب مجموعة محددة من الناس ستخسر مجاميع كثيرة. ولا يمكن لوسيلة ما أن تنجح بتبني ودعم أفكار متضادة لجماعات مختلفة، لأن هذا سيسقطها في المربع الأول ويعيدها بسرعة إلى منطقة الصفر.

الإعلام الحقيقي هو الذي يفعّل وظائفه المختلفة (الإخبار... الترفيه... التحذير... التعليم ... إلخ) عبر صناعة «مجموعة مجتمعية متخيلة» تكون معياراً لخط إنتاج المواد الإعلامية، بحيث تتقاطع مرة مع أفكار الجماعة «سين» وتتقاطع مرة مع أفكار الجماعة «صاد».

وعوداً على بد، أعود لسؤالي الرئيس: لماذا يفتقد الإعلام السعودي في منصاته كافة رضا المواطن؟ ولماذا توترت العلاقة أخيراً بينهما، خصوصاً بعد دخول وسائل التواصل الاجتماعي للحياة الاجتماعية السعودية؟ وأجيب بعدد من العبارات التي يستطيع من خلالها القارئ أن يكتفي بقراءة المقالة من خاتمتها:

أولاً، لعدم وجود مجلس أعلى للإعلام (كان موجوداً وألغي!) يرسم السياسات الإعلامية العليا ويمررها بطرق غير مباشرة للمنصات الإعلامية المختلفة لتتولى بدورها إيصالها للقارئ بمذاقات مختلفة. وبالمناسبة، فإنه تُمكن الاستعانة بالأكاديميين غير الممارسين في هذا المجلس لصنع السياسات الإعلامية، فيما يتولى المهنيون عملية نقلها للمواطن والمقيم. ثانياً، فك الارتباط بين وسائل الإعلام الرسمية والتوجيهات الحكومية المباشرة في ما يتعلق بالإخبار عن أحداث الساعة! ما يحدث الآن هو أن وسائل الإعلام الرسمية تنتظر في العادة توجيهات معينة لتغطية هذا الحدث وعدم تغطية ذلك الحدث، ما يبعد المشاهد عنها إلى وسائل إعلامية تكون مع الحدث في الدقيقة الأولى! لنرفع قليلاً الإشراف الحكومي المباشر، ولتخضع مثلها مثل بقية الأجهزة الحكومية إلى المسائلة اللاحقة.

ثالثاً، لابد للإعلام من أن يستوعب توجهات الدولة بالكامل لكي يكون مؤثراً. لا يستطيع الإعلام أن يؤثر داخلياً أو خارجياً، وأن يصنع رسائله المختلفة، وهو غير قادر على استنتاج الرؤية الصحيحة والكاملة للسياسة السعودية داخلياً وخارجياً. ولهذا فإني أقترح أن يكون هناك إيجاز صحافي أسبوعي من الديوان الملكي، يتناول سياسة المملكة داخلياً وخارجياً، ورؤيتها للأحداث الجارية وموقفها منها.

رابعاً، تفويض الناس للحديث عن أنفسهم في محطات تلفزيونية مناطقية بإشراف الدولة.

خامساً، إنشاء محطات تلفزيونية إنكليزية بمفاهيم غربية، وبمساعدة وجوه تلفزيونية شقراء لتمرير الرؤية السعودية في شكل غير مباشر إلى العالم.

سادساً، عدم تمرير القضايا المهمة والمصيرية من خلال المؤثرين في التواصل الاجتماعي، اعتماداً على محددين فقط: عدد المتابعين والمشاغبة السابقة! عندما نفعل ذلك فكأننا في المحدد الأول نعلن في محطة أطفال كرتونية عن منتجعات راقية للبيع في باريس، وكأننا في المحدد الثاني نقول لمستخدمي التواصل الاجتماعي: شاغبوا في المستقبل، ففي نهاية الأمر ستفوزون بالاحتواء والتقدير!

أخيراً، على الإعلام المحلي الخروج من شعاره الأثير الذي يحبه: «سأقول ما أريدكم أن تفهموه، وعليكم أن تفهموه كما قلته»! عليه أن يعرف أن خط الاتصال الواحد، هذا المقدس الذي لا يُمس أصبح من علامات سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ولم يعد يعمل بشكل جيد في هذا العصر.