بكر عويضة

كتبت فيكتوريا كورين مِتشيل بغضب: أيبرر اغتصاب امرأة أن ثيابها فاضحة، أو أنها كانت تسير ثملةً في وقت متأخر من الليل؟ مسز متشيل تنتمي لجيل بريطاني شاب يعبّر عن آراء شكلت صدمة لكثيرين، حتى على ضفاف اليسار الليبرالي، إمَّا لجرأتها غير المعهودة، أو لاستحالة وصم أصحابها بصفات تُوظف أحيانًا للتقليل من الشأن، أو للطعن بموضوعية الموقف، مثل المستوى الاجتماعي، أو الدخل المالي، أو حتى الشكل. فيكتوريا متشيل، كما معظم مُجايليها، ذات تعليم راقٍ، تنتمي للطبقة فوق المتوسطة، تحصل على دخل محترم، تطل من غير مرفق إعلامي، بينها شاشة «بي بي سي»، فأنَّى لخصوم مواقفها رمي شخصها، بالزعم أن آراءها السياسية أو الاجتماعية، مصدرها عُقد شخصية؟ استوقفني غضب فيكتوريا فيما رحت أتصفح عدد «أوبزيرفر» صباح الأحد الماضي. خلت للوهلة الأولى أنها متضامنة مع نساء أميركا وأنحاء عدة بالكوكب، ضد الرئيس دونالد ترمب، لكني اكتشفت أنها تصب جامَّ غضبها على فيلم (Nocturnal Animals) أي «بهائم الليل»، إذ بدا لفيكتوريا أنه يُحمّل المرأة جانبا من مسؤولية اغتصابها من قِبل بهيمة بشرية تصطاد ضحاياها في عتمة الليل.
بصرف النظر عن الثقافة والتراث، أو العرق والجنس، ليس ضروريًا للمرء أن يكون منسجمًا كل الانسجام مع مواقف أي حركة نسوية، كي يتشكل عقلاً وروحًا وقلبًا وفق قيّم ترفض شكلاً ومضمونًا ليس فقط فعل الاغتصاب ذاته، بل تناهض أي تبرير يحاول تخفيف جُرم استباحة جسد المرأة غصبًا. سَلْ أيَ امرئ يبصر بالقلب وبه يعقل، عما يفعل الاغتصاب بنفس المُغتصبة وروحها، ولو تحت سقف البيت، فسوف يقول بلا تردد إنه جرمٌ مشين، يعشعش بين أنفاس الروح كما يتسلل داء السُل بين شِعاب البدن، تعيش ضحاياه العمر كله بلا شفاء تام منه، تمسي منشغلة عنه بالعمل، أو تصبح متفائلة بغد أفضل مما راح وتولى، فإذا بجرح الذكرى يلفح فجأة كل عصب، وإذا بندوب القَرح تصحو مجتمعة، اغتصاب المرأة هو مأساتها التي سوف تحملها إلى قبرها، مهما حاولت إخفاءها رفقًا بأحباء حولها.

بلا جدال، الاغتصاب أحد أشكال ظلم البشر بعضهم بعضًا، وكما أن الموت واحد ولو تعددت الأسباب - مع مشروعية المقارنة بين نعمة الموت الكريم وسط الأهل والأحبة، وبين رعب القتل بفعل إرهاب أعمى - كذلك يظل الظلم ظلمًا رغم تعدد الأشكال. في هذا السياق، يجوز التساؤل: أين هو مكان اغتصاب الأرض بين ظلمات ظلم البشر لغيرهم؟ حسنًا، ليست الإجابة بحاجة إلى عبقرية، يكفي للمرء إمعان النظر من حوله، أيًا كان المقر، كي يرى ماذا يفعل النزاع على قطعة أرض، أو جزءٍ من مبنى، بين أهل وإخوة، أو شركاء كانوا أصدقاء فإذا هم أعداء. ما بالك، إذن، بانتزاع وطن بأكمله؟ هل أعني فلسطين؟ دع عنك، للحظة، أرض أنبياء قدستها كُتب السماء. سأضع السؤال عبر تغريدة لسيد البيت الأبيض الجديد: فخامة السيد الرئيس دونالد ترمب، هل تبدو أميركا لكم مُغتصبة، لأن فقراء المكسيك ينهبون ثرواتها، والصين تنافس بضاعتها في عقر أسواقها، ثم إن التطرف الإسلامي يهدد أمنها، لذا لا مفر من حرب شعارها «أميركا أولا»؟

يبدو واضحًا أن ذلك الفكر يحكم سلوك الرئيس ترمب ورهط المستشارين حوله. لا ضرر في ذلك عليهم، ولا ضِرار يجب أن يصيب من يعارضهم داخل بلدهم على نحو يوقظ «مكارثية» جديدة. بالمقابل، ينبغي أن يُحكّم سادة «الكابيتول» الجدد العقل لا الهوى، قبل أن يشرعوا في إيذاء غيرهم بحجة حماية أنفسهم. مثلاً، إذا كان ثمة من يهتم باجتثاث التطرف الزاعم أنه مسلمٌ أكثر من أميركا نفسها، فهم المسلمون قبل غيرهم. إدارة ترمب بحاجة إلى تعاون عواصم القرار في العالم الإسلامي، التي لن تتردد في العون والنصح، فهل تبادر واشنطن ترمب بشرح فهمها لمفهوم «التطرف» أولاً، بما يفتح أبواب التفاهم على كيفية اجتثاث هذا السرطان؟ وفي السياق ذاته، هل يجوز للعرب والمسلمين قراءة تعيين ديفيد فريدمان، سفيرًا مفوضًا فوق العادة في إسرائيل، وهو الداعم للاستيطان، والرافض لتقسيم القدس، والمناهض لحل الدولتين، ثم الشروع في دراسة نقل السفارة الأميركية للقدس الشرقية، هل يجوز قراءة ذلك كله كما يُقرأ المكتوب من عنوانه؟ أتطرفٌ يجتث التطرف، سيادة الرئيس، أم يغذيه وينعش ما هو أسوأ من «داعش»؟ وأختم بسؤال مستوحى من مقالة فيكتوريا متشيل المؤثرة: أليس الاغتصاب هو الاغتصاب، جسدًا أو أرضًا أو وطنًا؟ بلى، يعرف ذلك وتعرفه كل من عرف وعرفت مرارة وذلّ التهجير داخل أي وطن.