فهمي هويدي

حسب الإرشادات والتعليمات التي أعلنها منظمو المظاهرة الكبرى التي خرجت في واشنطن رافضة الرئيس الجديد بعد تسلمه السلطة في ٢٠ يناير تم اتخاذ مجموعة من الترتيبات أبرزها ما يلى: جرى توفير دورات مياه متنقلة للمتظاهرين، وخدمات علاجية طارئة لكبار السن والأطفال. وتولى عشرة آلاف متطوع من الرجال والنساء مهمة الحفاظ على نظام المسيرة، وهو ما تم بالتعاون مع رجال الأمن والمختصين، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني وفي المقدمة منها المنظمات الحقوقية وجمعية المثليين الوطنية، وحزب الخضر وجمعية الصليب الأحمر. وانضمت إليها عدة منظمات تابعة للحزب الديمقراطي..إلخ.

هذا الوصف طالعته في صحف الأحد ٢٢/١، التي نشرت صورا للجماهير الغفيرة المحتجة. كان من بينها صورة لوزير الخارجية السابق جون كيري الذي شارك في المظاهرة مصطحبا معه كلبه. لم أتوقف عن الدهشة وأنا أقرأ التفاصيل، حتى قلت إننا حسدنا الدول الغربية التي تتولى فيها الشرطة حراسة المظاهرات وتأمين مسيرتها، لكننا لم نسمع عن أن هناك مظاهرات «سبع نجوم»، يدلل فيها المتظاهرون إلى الحد الذي يتم فيه توفير دورات المياه لهم إلى جانب الرعاية الطبية لكبار السن والأطفال. وهو ما لابد أن يثير استغراب أمثالنا ممن قيل لهم إن المظاهرة عمل إرهابي وإن المشاركة فيها مغامرة كبرى، باعتبار أن الذاهب إليها لن يعود إلى بيته وإذا قدر له أن يظهر فقد يُرى في سجن العقرب أو أمام نيابة أمن الدولة. تذكرت في هذا السياق الفتى محمود محمد الذي كانت جريمته أنه ارتدى قميصا كتب عليه عبارة «وطن بلا تعذيب»، وبسبب هذه «الجريمة» فإنه قضى أكثر من ٥٠٠ يوم في السجن، لذلك كان مفاجئا لي أن هؤلاء الذين خرجوا في واشنطن في مظاهرة معادية لرئيس الجمهورية الجديد عادوا إلى بيوتهم بعد الظهر معززين مكرمين.

الدهشة التي انتابتني حين وقعت على المظاهرة ذات النجوم السبع لم تختلف كثيرا عن دهشة المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية على مصر، واستغرب نظام الضبط والربط في الجيش الغازي، فكتب قائلا إنه: من عجيب أمر الفرنجة أنهم إذا قال لهم كبيرهم «مارش» فإنهم يمشون! حتى قلت إنه لو بعث في زماننا لكتب قائلا إن من عجائب أمر الفرنجة أن المتظاهرين يعودون إلى بيوتهم سالمين. لاحظت أن زميلنا الكبير الأستاذ صلاح منتصر نوه في جريدة الأهرام (عدد ٢٣/١) إلى أن منظمي المظاهرات في أمريكا يرسلون أسماء المشاركين فيها إلى الأجهزة الرسمية لكي تكون على علم مسبق بأعدادهم وأهدافهم وخط سيرهم. وهي الخلفية التي يشير إليها البعض في القيود وسياق تسويغ الشروط الأمنية التي تتبع في بلادنا في مثل تلك المناسبات. إلا أن هؤلاء ينسون أن حق التظاهر السلمي مثل حقوق الإنسان من الحقوق المكفولة والمحترمة في الأنظمة الديمقراطية. أما في الأنظمة الأخرى فإن إرسال قوائم المشاركين إلى الأجهزة الرسمية (التي هي أمنية في الحقيقة) يعد حماقة كبرى. إذ إنه بمثابة وشاية مبكرة تيسر مهمة الشرطة في إلقاء القبض على الجميع وتجهيز قضية جديدة تتهم المتظاهرين بتكدير الأمن العام وتعطيل المواصلات..إلخ. والباقي بعد ذلك معروف. مظاهرات الملايين التي خرجت في الولايات المتحدة وغيرها من العواصم الغربية جاءت كاشفة عن مدى قوة الجماهير وشجاعتها في المجتمعات التي تربت في ظل الممارسة الديمقراطية الحقيقية. والفرق بين الديمقراطية الحقيقية علما بأن المزيفة يدل عليه المصير الذي يلقاه المتظاهرون السلميون في الحالتين. وأرجو ألا أكون بحاجة إلى شرح الفكرة.