عبد المنعم سعيد 

 أكتب المقال قبل ساعات من تتويج دونالد ترمب رئيسًا للولايات المتحدة، وعندما يصل إلى القراء ربما كان هناك عالم جديد آخر بالفعل، فالرجل لا ينتظر كثيرًا نصيحة المستشارين ولا موقف المؤسسات. دور الفرد ثابت في التاريخ، وحتى من ركزوا على العوامل الاقتصادية والاجتماعية في حركة التاريخ، مثل ماركس وإنغلز، فإنهم في نهاية أيامهم اعترفوا بدور الفرد، بل إن إنغلز قال إن «الصدفة» كان لها دور أحيانًا. ودونالد ترمب أدار حملة انتخابية فريدة، ليس فقط لأنها قادت إلى فوزه بالبيت الأبيض، وإنما لأنه طرح ما لم يكن مطروحًا في الماضي، وفعل ذلك في محتوى لم يكن موجودًا في السابق، وأوقف أميركا على أصابعها، ومعها العالم، كما لم يحدث من قبل.
وبقدر ما يبدو الرئيس الأميركي الجديد حالة لا تتكرر، فإنه كان من ناحية تعبيرًا أميركيًا عن تيار واسع في العالم الغربي أصبحت له الآن ملامح مرصودة، ومن ناحية أخرى، فإنه مثل كل الأفراد ليس مثله فردًا آخر. باختصار، فإن ترمب كان محقًا عندما جعل من نفسه «ماركة» أو (Brand) ذات صفات أميركية، ولكنه الآن يسعى إلى العالمية.
الليلة ليست مثل البارحة، حتى ولو التقت معها في حقيقة أن مولودًا جديدًا قد جاء إلى الدنيا يطرق بابها، ويكسر أبوابها، بصيغ وأدوات جديدة. وفي عام 1991، أعلن جورج بوش الأب عن مولد «النظام العالمي الجديد» بعد حرب الخليج لتحرير الكويت، التي لم يمضِ وقت طويل بعدها حتى انهار الاتحاد السوفياتي كليةً، بعد عام، أو أكثر قليلاً، من سقوط حائط برلين، ونشوب الثورة في أوروبا الشرقية، في الدولة تلو الأخرى. ربع قرن مضى منذ تلك اللحظة الفريدة التي تغير فيها العالم على أكتاف الثورة الصناعية الثالثة، ونهاية الحرب الباردة، والحديث عن دنيا جديدة يصير فيها العالم قرية صغيرة بالفعل، ويحكمها القانون الدولي، والأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية.
الصيحة الذائعة كانت آنذاك هي «العولمة»، التي وقف أمامها العالم العربي مبهورًا تارة لما فيها من ألوان وحدة عالم متنوع، وناكرًا تارة أخرى، لأنها في الأول والآخر صياغة لسيطرة الغرب المتقدم على بقية الكون، أو كما قيل على سبيل الاختصار The West and the Rest. ولكن الدنيا كانت كلها تغيرت، وما كان مدهشًا في البداية من مخترعات الحواسب الآلية ومشتقاتها، صار من طبائع الأشياء التي لا يعيش إنسان من دونها. ولكن المدهش فعلاً كان أنه رغم تلك الحالة من التواصل الإنساني بين البشر، حلاً وترحالاً، وتواصلاً واتصالاً، فإن الفرقة بين البشر بدأت بعمليات إرهابية صغيرة في البداية، ولكنها انقلبت إلى مذابح كبرى مع «غزوة» نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول) 2001. باختصار، انفتحت ستارة المسرح العالمي على لغة أخرى غير «نهاية التاريخ» التي غردت للفجر الليبرالي الذي يضيء العالم، لكي تفضي إلى العالم المظلم الآتي من العصور الوسطى «لصراع الحضارات».
هل يأتي ترمب إلى السلطة متوّجًا لمولد عالم جديد آخر، أم أنه مرحلة من مراحل عالم كان جديدًا لم ينضج بعد، أم أن المسألة كلها تعبير عن صيرورة تاريخية قد يتغير فيها الممثلون، ولكن المسرحية، أو القصة، أو الحكاية، تظل على حالها، كما عرفناها في العصر الحديث؟! الإجابة عن السؤال سوف تتوقف على أعين الناظرين، وأين يقفون من زوايا التاريخ المختلفة، وربما نكتفي هنا بأن الجديد ما هو إلا واقع «مختلف» - عن يقين - عما سبق أن عرفناه خلال الربع قرن الذي انقضى منذ قام العراق بغزو الكويت. محرر شبكة «ياهو» الإخبارية مات باي كتب: «إن ترمب يركب ويدعم بنشاط التوجه نحو العزلة والشعبوية التي تكتسح الأمم الغربية، بشكل كبير مثل تلك التي قادت ألمانيا إلى النهوض قبل بداية الحرب العالمية الثانية. إن ترمب يرفض حرية التجارة، ويرفض الدور المكلف نسبيًا للدفاع عن أوروبا والغرب. إنه يرفض التنوع في ثقافتنا، وحدودنا المفتوحة. إنه يمثل نوعًا من الانغلاق القومي، الذي بعده نلملم أنفسنا ونمضي فائقين إلى العمل الصائب للدولة والقيادة الكونية. ولكنّ هناك أمرًا آخر: بمجرد أن تترك، فإن فراغًا يحدث، وليس سهلاً بعد ذلك أن تعود مرة أخرى، وتقول إنك كنت تعبث بعيدًا. إن قواعد للاقتصاد تكتب، ودولاً صاعدة تستغل اللحظة. إن العالم ينظر إلى ناحية أخرى وهو ما يمكن التنبؤ به».
انتهى كلام مات باي، وما كتبه سبق أن ناقشناه في هذا المقام، ولكن من الآن فصاعدًا، فإن الكتابة لن تكون على سبيل التحليل أو الرصد والتنبؤ، وإنما هي ملاحظة لواقع يبدو الآن حقيقيًا، ليس فقط من تشكيلة الحكم التي جاء بها ترمب إلى السلطة، ومن الكتيبة التي يجهزها للانقضاض على الجهاز الإداري للدولة بحيث يقضي على مجموعات من البرامج التي لا يرضى عنها في المجتمع أو البيئة، ومن مجموعة القوانين التي دفع بها إلى الكونغرس، ولا يكاد الجمهوريون يصدقون أنفسهم أنهم بات بإمكانهم هدم كل تراث أوباما في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. ما يبدو واضحًا أنه لن يمر وقت طويل حتى نرى نتائج كل ذلك داخليًا في أميركا، سواء كان ذلك ما يتعلق بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، وإنما أكثر من ذلك في العلاقات العرقية. ولكن المؤكد أن الحركة السياسية داخل أميركا لن تكون في اتجاه واحد من ترمب إلى أسفل، وإنما من طوائف واسعة من الشعب الأميركي التي لم تناصر هيلاري كلينتون فقط، أو أنها ترى شرعية نجاح ترمب بالمساعدة الروسية مشكوكًا فيها، وإنما لأنها ترى أن الفجر الليبرالي وصل إلى غروب مبكر.
في السياسة الخارجية، فإن برنامج ترمب، أو ما جرت قراءته في تصريحات و«تويتات» مختلفة، يبدأ بمغامرة كبيرة، وهي عقد صفقة تاريخية مع روسيا تشمل كل ما هو موجود بين الدولتين: أوكرانيا، سوريا، الإرهاب، العقوبات الأميركية والغربية، تفكيك المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، أو إضعافها مثل الأمم المتحدة، الحد من الأسلحة النووية، أو زيادتها، حيث لا يبدو لدى ترمب اهتمام بمنع انتشار الأسلحة النووية، وبالطبع كوريا الشمالية التي ينتظر أن تأتي منها أولى الأزمات أو الاختبارات التي يواجهها ترمب. القائمة أطول من ذلك بالطبع، ولكنها تقوم على ركيزة واحدة، وهي أن الصفقة ممكنة، ولكن لا أحد يعرف بعد ماذا يريد بوتين من تلك الحالة من الكرم الأميركي الحاتمي الذي يدعو في الحقيقة إلى اقتسام العالم أو خلق حالة من «الكوندومنيوم» أو الوصاية على أقدار الدنيا. الأمر هكذا، وإذا عدنا إلى نقطة البداية، هي عالم جديد آخر، قد يكون حقيقيًا أو مجرد كابوس أو أضغاث أحلام، أو مجرد جملة اعتراضية على مسيرة كبيرة للإنسانية. كل هذه احتمالات مشروعة، والمشروع الآن هو الانتظار، والظن أننا لن ننتظر طويلاً: اربطوا الأحزمة!