عادل درويش 

 تذكرت القول الإنجليزي «أولى خطاه على الأرض عدو»، أي بدأ مهمته بحماس وسرعة غير متوقعة، فور تولي مهامه بدأ الرئيس الجديد دونالد ترمب عصرًا جديدًا في السياسة وتنفيذ الوعود الانتخابية وتحديد ملامح السياستين الداخلية والخارجية، والاقتصاد والأمن.


إشارات الوقوف على عتبة نظام عالمي جديد، كلحظات سقوط حائط برلين، وانتهاء الحرب الباردة، وربيع شرق أوروبا قبل أكثر من ربع قرن.
وأود تذكير القراء بمقترحات في هذا العمود قبل بضعة أسابيع في كيفية التعامل الواقعي مع الرئيس الجديد؛ والفرصة لم تضع بعد، خصوصًا في خطوة الرئيس ترمب الثورية في البروتوكولات؛ خطوة أعادتنا لثمانينات القرن الماضي و«العلاقة الخاصة» في المحور الأنغلوساكسوني التاريخي بين السير ونستون تشرشل، وفرانكلين روزفلت الذي أنقذ الحضارة الإنسانية من الهمجية النازية، وعلاقة السيدة الحديدية مارغريت ثاتشر بالرئيس رونالد ريغان، التي أنهت الحرب الباردة، وساعدت رياح ربيع التغيير على تذويب الستارة الحديدية وإنهاء الشمولية من شرق أوروبا.
اعتاد أي رئيس أميركي بعد انتخابه الالتقاء أولاً برؤساء بلدان الجوار في المنظومة الأميركية، ككندا والمكسيك، ثم يستغرق الأمر بضعة أسابيع أو أشهر لترتيب استقباله لرئيس وزراء بريطانيا، وقد يتجاوز الأمر إلى لقاء زعيم ألمانيا أو زعيم أوروبي آخر قبل بريطانيا، كما فعل باراك أوباما.
الرئيس ترمب، في إشارة واضحة للعالم، والاتحاد الأوروبي - في تضامن مع بريطانيا «التي يعشقها» وتصفه الصحافة «بالأنغلوفيل» فأمه اسكتلندية - وجه الدعوة لرئيسة الوزراء تيريزا ماي كأول زعيمة عالمية للزيارة. وصلت الدعوة في الساعات الأولى من صباح السبت، بعد 20 ساعة من تنصيبه، وتزامنت مع إعادته تمثالاً للسير ونستون تشرشل إلى مكانه في المكتب البيضاوي، أمام لوحة زيتية للرئيس جورج واشنطن.
وفي إشارة لا تخطئها العين، كانت مصافحته للزعيمة البريطانية أمام تمثال تشرشل لتسجلها عدسات الكاميرا.
التمثال كان أوباما نقله بعيدًا عن المكتب البيضاوي، واختار لخطاب التنصيب ذكرى مقاومة جنود يقودهم واشنطن «للمستعمر البريطاني» في القرن الثامن عشر. ترمب وضع تمثال أهم وأشهر زعيم بريطاني في التاريخ الحديث، أمام لوحة الرئيس واشنطن، وهو يتحدث عن «العلاقة الخاصة» والتحالف الذي شكل، لعقود طويلة، العمود الفقري لحماية العالم الحر.
عشية لقاء ترمب، ألقت رئيسة الوزراء خطابًا مطولاً في مؤتمر الحزب الجمهوري تحدد فيه ملامح السياسة البريطانية تجاه أميركا وتجاه العالم، تحول جديد في السياسة العالمية محوره تحالف الديمقراطيات الناطقة بالإنجليزية، ودورها في تقدم البشرية وإنشاء منظمات دولية.
ربما أهم ملاحظة هي الإبحار بعيدًا عن سياسة التدخلات «الليبرالية» في شؤون البلدان الأخرى، «لمحاولة إعادة تشكيلها على صورة في مخيلة الغرب». وكانت تقصد تدخلات بلير وبوش في العراق، وكاميرون وأوباما في ليبيا. لكنها أيضًا شددت على تقارب بريطانيا مع بلدان الخليج كأصدقاء تاريخيين، وأخذها التهديدات الإيرانية في الاعتبار.
هناك تطابق في وجهتي النظر البريطانية والأميركية بعبثية الأنساق والمنظمات، سواء الاتحاد الأوروبي أو منظمة التجارة العالمية وأمثالهما. كرر ترمب إعجابه بـ«البريكست» بصفته استقلالا وتحررًا للقرار البريطاني. وشدد الزعيمان في المؤتمر الصحافي على الاتفاقيات الثنائية، خصوصًا في التجارة، وأيضًا التعاون الأمني والمعاهدات السياسية.
الملاحظة الأخرى، اتفاق الطرفين على مكافحة الإرهاب، خصوصًا الجماعات المتطرفة (وهناك مشروع قرار يتبناه السيناتور تيد كروز لإدراج تيارات اعتبرتها إدارة أوباما معتدلة، على لائحة الإرهاب، منها جماعة الإخوان المسلمين)، والإسراع باتفاق تجاري أنغلوأميركي (حجم التجارة 150 مليار جنيه إسترليني بين البلدين سنويًا).
الملاحظة الثالثة، قدرة رئيسة الوزراء على الإقناع، أو مدى مرونة الرئيس ترمب عند التعامل معها، أو الكيمياء بين الاثنين. ففي لقاء (45 دقيقة) أقنعت المسز ماي الرئيس الأميركي بإعادة النظر في نظرته التي بدت سلبية لـ«الناتو». في المؤتمر الصحافي قالت إن الرئيس ترمب أكد لها دعمه «مائة في المائة لحلف الأطلسي»؛ وهي ورقة قوية تستخدمها مع الزعماء الأوروبيين الذين يحاولون عزل بريطانيا سياسيًا ودبلوماسيًا.
الرمز الآخر هو المكالمة التليفونية التي أجراها الرئيس ترمب يوم الاثنين (أول يوم في أسبوع العمل في البيت الأبيض) مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وشرح مكتبه للصحافيين تطابق وجهات النظر في محاربة التطرف والجماعات الإرهابية في سيناء، وتقديم دعم عسكري لمصر، وخطة للتطوير الاقتصادي والتعاون في مجالات الأمن والمخابرات.
وكان الزعيم المصري هو أول رئيس يبعث ببرقية تهنئة (أربع دقائق فقط بعد إعلان فوز ترمب بالرئاسة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي)، وأول زعيم أجنبي يجري الرئيس الأميركي معه مكالمة تليفونية عقب انتخابه.
من فريق ترمب تفيد بأنه يعي الدور التاريخي والجغرافي والثقافي لمصر في استقرار وأمن المنطقة واتساق مصالح البلدين، ثم اختيار واشنطن دعوة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في زيارة رسمية إلى واشنطن، لعدة اعتبارات منها أن الأردن تاريخيًا من أقرب البلدان العربية إلى بريطانيا.
هذه الرموز تبين بعض الاتجاهات المبكرة للرئيس ترمب، رغم أننا لم نلقِ نظرة كافية بعد على اتجاه بوصلة سفينة سياسته الخارجية، وسياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أرى أن يتجنب العرب التعامل مع الرئيس الأميركي كتكتلات (الجامعة العربية، دول الجوار، مجلس التعاون، الاتحاد الأفريقي) وأمثالها، ويركزوا على تعامل العلاقات والاتفاقيات الثنائية.
أيضًا الأخذ في الاعتبار أن ترمب يرفع شعار وضع المصالح الأميركية أولاً، ثم اتساق نظرته مع بريطانيا في سياسة ودبلوماسية عدم التدخل إلا عند تهديد المصالح القومية لأي من البلدين. ورغم أننا في الأسبوع الأول من إدارته، فإنه في تقديري سيتجنب التركيز على منطقة الخليج، باستثناء رغبته في تحجيم إيران والحد من تدخلاتها والمتاعب التي تثيرها.
كان للبحرين خطوة موفقة في دعوة رئيسة الوزراء ماي لحضور قمة المنامة في الشهر الماضي، تأكيدًا لصداقة تاريخية. ولذا فمن الضروري تنسيق العرب، خصوصًا الخليج، مع بريطانيا في كل خطوة استراتيجية للتعامل مع ترمب، الذي أعلن عشية لقائه بالمسز ماي أنه يريد بناء علاقة أنغلوأميركية على نمط علاقة ثاتشر بريغان، والتي اختبرها العرب في محن وأزمات حقيقية وجدوا فيها الدعم من التحالف عبر الأطلسي.