سالم حميد

كانت النيات طيبة لدى الحكومات التي اعتمدت سياسة احتواء الإسلاميين الحركيين، وانطلقت من الرغبة في التعايش والقبول بالتنوع، ولملمة صفوف المجتمع لبناء الأوطان، واستثمار كل الطاقات، وتحقيق توازن في حضور وجهات النظر، على أمل أن الاحتواء وفتح أبواب المشاركة في إدارة مؤسسات الدول سوف يسهم في تحقيق الاندماج وبث الروح الوطنية في نفوس أولئك المتعصبين، وبخاصة أن المتأسلمين لم يُظهروا في بداياتهم التوحش والغدر الذي أصبحوا الآن يتباهون بممارسة كل أشكاله في العلن.

لقد فهم الإسلامويون أن مهادنتهم واحتواءهم يعتبر ضعفاً من قبل الدول. وكانوا يستغلون التسامح والتغاضي عن أنشطتهم لمواصلة استقطاب الأتباع وتعبئة المجتمع بخطابهم المتطرف، وبالتالي عملت سياسة الاحتواء في فترات كثيرة على زيادة نفوذهم وقوتهم. وعندما يتم الالتفات إلى مخططاتهم وتُتخذ إجراءات قانونية بحقهم، يسارعون إلى الاستنجاد بالمنظمات الحقوقية العالمية المعروفة بتبعيتها لأجهزة استخبارات دولية. ومن المفارقات العجيبة أيضاً أنهم يكفِّرون الغرب ويعتبرونه وجهة لعملياتهم الإرهابية، لكنهم يحتاجون إلى منظماته الحقوقية ووسائل إعلامه. وبعضهم يلجأ إلى أوروبا التي يكفِّرون دولها، ثم يمارسون من على أراضيها كل أعمال الخيانة والتطاول على أوطانهم، التي منحتهم وأسرهم الكثير، لكنهم يقابلون العطاء بالخيانة والغدر.

بدأت سياسة احتواء المتأسلمين في مصر منذ عهد الملك فاروق، ثم في بداية عهد عبدالناصر. وحاول السادات تجريب هذه السياسة إلى أن انتهت باغتياله في حادثة المنصة الشهيرة. ورحل السادات وعلى وجهه علامات الاستغراب وخيبة الأمل تجاه شرذمة لا تعرف سوى الغدر.

ولدينا في دولة الإمارات تجربة مع هذا التيار منذ قيام الاتحاد، حيث تم استيعابهم في أجهزة الدولة، ووصل بعض رموزهم إلى مواقع وزارية حيوية، من بينها التعليم والعدل. وعندما وجدوا أنفسهم في تلك المناصب عبثوا لفترة، وحين ازداد عبثهم بمناهج التعليم، تنبهت الدولة إلى خطورة ذلك، وبدأت مرحلة تقليص نفوذهم بالتدريج.

ومن الدلائل على طول النفس وسعة الصدر في التعامل مع هؤلاء الذين لا يقدّرون التسامح ولا يعرفون لغة العفو، قيام خمسة من أقطابهم في عام 2011 بالتطاول على رموز الدولة، وتم القبض عليهم حينها ومحاكمتهم، وخلال فترة وجيزة قوبلت إساءاتهم الحمقاء بالإحسان والتسامح، وصدر قرار بالعفو عنهم وإطلاق سراحهم. ونتيجة لتكبرهم وعدم استحقاقهم للعفو، قام أغلبهم مرة أخرى بتكرار الإساءة لرموز الدولة، وفي الوقت ذاته يتباكى أتباعهم الصغار عندما تتم محاسبة الخونة الكبار منهم بأحكام قضائية، ويلجؤون إلى الاستعانة بمنظمات حقوقية مشكوك في أهدافها وتقاريرها.

لقد احتاجت المنطقة العربية والعالم بأكمله إلى عقود من الزمن، لكي يتضح للمجتمعات والنخب والحكومات فشل سياسة احتواء تيارات الإسلام السياسي. وتأخرت معرفة فشل هذه السياسة كثيراً، إلى أن حدثت دروس عديدة، تؤكد أنه من الخطأ تكرارها مرة أخرى مع تلك التيارات، لأنها قد استنفدت كل فرصها. خصوصاً أن جماعات الإسلام السياسي لم ولن تنجح في التقدم خطوة واحدة، باتجاه التعايش مع الأوطان والمجتمعات، بعيداً عن الأطماع والسيناريوهات الجهنمية، التي ستبقى كامنة في مشروعها الانقسامي الفوضوي.

فشلت سياسة الاحتواء، لأن مشروع الإسلام السياسي يرتكز منذ نشأته على محاولات الاستئثار بالخطاب الديني، وإعادة صياغته برؤية تثير انقسام المجتمعات وتضر بعوامل وحدتها الوطنية. وخلال العقود الماضية كانت سياسة الاحتواء تمنح المتطرفين المزيد من الوقت لتصدير الخطاب الإسلاموي الانقسامي إلى الواقع، بمنظور مفخخ باصطفاء الجماعة لذاتها، مقابل تكفير الآخرين وإرهابهم، وتحين الفرصة للانقضاض على السلطة وإقامة الخلافة على نمط «داعش». وعندما نقول إن سياسة الاحتواء القديمة قد فشلت، فذلك يعني المضي في اتخاذ خطوات حاسمة وصارمة تجاه المتطرفين، وهذا أقل ما يمكن القيام به تجاه من يخون الوطن.

ولمن يرفعون شعار حقوق الإنسان للتعاطف مع أنصار التوحش والإرهاب، نذكّر بما قاله رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون: «عندما تصل الأمور للأمن القومي، لا تسألني عن حقوق الإنسان».