فهمي هويدي

وجود وفد حركة حماس بالقاهرة في مناسبة حلول الذكرى السادسة لثورة يناير إعلان ضمني عن أن تاريخ الثورة كتب في ضوء الحسابات السياسية بعيدا عن معطيات الواقع على الأرض.

(١)

لا يكاد المرء يصدق عينيه وهو يطالع ما تنشره وسائل الإعلام المصرية عن حماس هذه الأيام، إذ في أعقاب زيارة للقاهرة هي الأولى منذ ثلاث سنوات غادرها إلى غزة إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وخلال الأيام الخمسة التي أمضاها في العاصمة المصرية على رأس وفد للحركة أجرى مباحثات مكثفة مع المسؤولين المصريين وصفتها جريدة الأهرام بأنها "مهمة" وقالت عنها صحيفة "المصري اليوم" إنها "إيجابية". أما جريدة "الشروق" فقد ذكرت أنها زيارة "ناجحة". الذي يقل أهمية عن ذلك أن أخبار حماس نشرت على الصفحات الأولى، في حين ظل مكانها خلال السنوات الثلاث مقصورا على صفحات الحوادث ووسط أخبار الجرائم.

إلى جانب ذلك نقل موقع "الرسالة نت" عدة تصريحات لسياسيين مصريين، منها ما ذكره السيد عبد الغفار شكر رئيس حزب التحالف الاشتراكي الذي دعا إلى ضرورة فتح صفحة جديدة بين مصر وحماس. واعتبر ذلك أمرا مهما يعزز الدور الإقليمي لمصر ويصب في مصلحة القضية الفلسطينية. أيده في ذلك وحيد الأقصري رئيس حزب مصر العربي الاشتراكي، مضيفا أن الخلاف بين حماس والقاهرة لا يستفيد منه سوى أعداء الطرفين. في الوقت ذاته نقل الموقع عن السفير المصري الأسبق في إسرائيل محمود فهمي كريم قوله إن التفاهم بين الطرفين يستحق كل ترحيب، ولأن حماس لا تحمل لمصر إلا كل خير، مضيفا أن محاولة الوقيعة بين الطرفين لم تحقق أهدافها.

على الجانب الفلسطيني قال السيد هنية بعد عودته إلى غزة يوم الجمعة 27/1/2017 إن العلاقة مع مصر ستشهد نقلات نوعية وإيجابية ستظهر خلال الأيام القادمة. وقبل ذلك بيوم واحد (26/1) نشرت مجلة الأهرام العربي للدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي وعضو الوفد تصريحات قال فيها إن صفحة الخلاف مع مصر قد طويت.

(٢)

ما أثار انتباهي فيما نشر عن الأجواء الإيجابية التي جرى التأكيد عليها أن مباحثات الطرفين تطرقت إلى عناوين كثيرة، شملت المصالحة مع فتح والأسرى ومعبر رفح ومعاناة أهل غزة من شح الكهرباء والمياه والقدس والاستيطان وحفظ الأمن على الشريط الحدودي، وصولا إلى ملف الأسرى الإسرائيليين لدى كتائب عز الدين القسام. ورغم ما بدا من أن المباحثات المكثقة تطرقت إلى تلك القائمة الطويلة من القضايا العالقة، فإن أحدا لم يشر إلى سجل الاتهامات الجسيمة التي وجهت إلى حماس منذ قيام ثورة 25 يناير عام 2011 وحتى عهد قريب، ذلك أن الحركة حملت مسؤولية قتل المتظاهرين وفتح السجون وتهريب السلاح إلى مصر وتهديد الأمن في سيناء وغيرها. كما أن وزير الداخلية الحالي وجه إليها الاتهام في جريمة قتل النائب العام المصري السابق. وهو ما يسوغ لي أن أقول إن مباحثات القاهرة الأخيرة أحدثت اختراقا وانقلابا في علاقات الطرفين، أدى إلى الانتقال من خطاب الشيطنة إلى لغة التصالح والتوافق والفهم المشترك.

هذا التحول يهمني من زاويتين، الأولى مهمة تتعلق بالنتائج المرجوة على صعيد إعادة الثقة بين الطرفين، ما يخفف من معاناة أهلنا في غزة خصوصا ما تعلق منها برفع الحصار وتخفيف القيود المفروضة على معبر رفح. الزاوية الثانية تتعلق بتصحيح وقائع التاريخ. وتتمثل في تحري حقائق الأحداث المهمة في الثورة المصرية، بما يسمح بإعادة قراءة بعضها وتصويب المعلومات المتعلقة بالبعض الآخر.

لست في موقع يسمح لي بتقرير ما إذا كان التطور الذي حل بين مصر وحماس هو "هدنة" أم صلح بين الطرفين "تكتيكي أم استراتيجي". كما أنني لا أستطيع أن أثبت ما إذا كان ما جرى حلقة في سيناريو قادم في القضية الفلسطينية، أم أنه تطور مستقل ولا علاقة له بأي ترتيبات مستقبلية يجرى الإعداد لها فيما يخص ذلك الملف.

بسبب غموض خلفيات ومرامي التطور الأخير في علاقة حماس بمصر، فإنني سأكتفي بإثبات الحالة وتسجيل واقعة التحول عن خطاب الشيطنة. وسأنتهز فرصة حلول الذكرى السادسة لثورة يناير، ومصادفة وجود وفد حماس بالقاهرة في المناسبة لتحري الحقيقة في مرحلة انطلاق الثورة التي روج الإعلام لدور حماس في بعض وقائعها المهمة على النحو الذي أشرت إلى بعضه قبل قليل.

(٣)

في هذا الصدد ألفت الانتباه إلى عدة أمور هي:

< أن زميلنا الأستاذ محمد سعد عبد الحفيظ أورد ملاحظة مهمة في تعليقه على الموضوع فيما كتبه على موقع "مصر العربية" في 28/1، إذ ذكر فيها أن زيارة وفد حماس للقاهرة كشفت عن ارتفاع منسوب التخبط والعشوائية بين الأجهزة الأمنية المصرية. ذلك أنه حين كانت المخابرات العامة ترتب جدول زيارة الوفد، صدر قرار إدراج الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة في قوائم الكيانات الإرهابية التي قضت بها محكمة جنايات القاهرة واعتمدت في ذلك على مذكرة تحريات للداخلية. وهو ما يعني أن حسابات الجهة الأمنية الأولى على النقيض تماما من حسابات واتجاه الجهة الأمنية الأخرى.

< أنني التقيت خبيرا عسكريا رفض ذكر اسمه قال لى إن ما ذكر عن تدخل حماس في أحداث الثورة عام 2011 وما قيل عن تسلل ما بين 600 إلى 800 من عناصرها عبر الأنفاق إلى مصر أثناء الثورة هو بمثابة أسطورة لا يصدقها عقل، ولا تصمد أمام القراءة الموضوعية. ودلل على ذلك بأن الرحلة المفترضة لذلك العدد الكبير نسبيا من الأشخاص بسياراتهم وآلياتهم تمر بالضرورة في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش المصري. بعد تسللها المفترض من غزة إلى رفح الفلسطينية ثم رفح المصرية. إذ عليها أن تتجه من رفح إلى الشيخ زويد ثم العريش مارة بالساحل الشمالي الذي يدخل ضمن المنطقة التي يسيطر عليها الجيش المصري بالكامل طبقا لاتفاقية كامب ديفيد ثم يتجه إلى القنطرة شرق. وعلى تلك الجموع أن تستقل عبارة أو "معدية" تابعة للقوات المسلحة لكي تنتقل إلى القنطرة غرب ومنها تصل إلى محافظة الإسماعيلية، ثم تمر بمحافظة الشرقية لتصل بعد ذلك إلى القاهرة التي كانت بدورها في عهدة القوات المسلحة بعد رفع حظر التجول وتولت تأمينها الفرقتان الثانية والتاسعة. وفي ظل ذلك التواجد تخترق العاصمة تلك المئات المفترضة، كي تصل إلى ميدان التحرير لتقوم بما نسب إليها متعلقا بقتل المتظاهرين أو الانطلاق لفتح السجون. وأضاف محدثي أن من غير المعقول أن يتم كل ذلك تحت أعين القوات المسلحة، فلا تقوم بالاشتباك مع العناصر المتسللة ولا تقوم برصدها أو حتى إلقاء القبض على واحد منها، خصوصا أن مدير المخابرات الحربية آنذاك كان "اللواء" عبد الفتاح السيسى. كما أنه لا يقبل عقل أن تغفل القوات المسلحة وهي الحاضرة في قلب المشهد عن تحرك ذلك العدد حتى رابعة، ورصدته الداخلية التي كانت غائبة عنه.

< لا تفوتنا أيضا ملاحظة أن تقرير لجنة تقصي حقائق أحداث الثورة الذي أعلنت خلاصته في مؤتمر صحفي لم يشر إلى دور لحماس خلال الـ18 يوما التي استغرقتها الثورة. إذ قررت اللجنة التي رأسها المستشار عادل قورة رئيس النقض الأسبق أن رجال الشرطة هم الذين أطلقوا النار في مواجهة المتظاهرين وبالقنص من فوق أسطح المباني المطلة على ميدان التحرير (خلاصة التقرير التي وزعتها اللجنة نشرتها صحيفة "المصري اليوم" في ١٩/٤/٢٠١١).

(٤)

يخطىء من يظن أن تبرئة حماس مما نسب إليها هو الهدف مما ذكرت، لأن الأهم عندي هو كشف أدلة تزوير أحداث الثورة من خلال طمس حقائقها واستبدالها بادعاءات جديدة سواء لتشوية الثورة، أو لتبرئة الذي سعوا إلى قمعها وإفشالها. شجعني على ذلك تزامن وجود وفد حماس في القاهرة مع حلول الذكرى السادسة للثورة، فضلا عن تواتر التصريحات الإيجابية التي تحدثت عن فتح "صفحة جديدة" بين حماس والقاهرة، رشحت لها عناوين مختلفة عكست خطابا سياسيا مناقضا لذلك الذي ترددت أصداؤه في مصر خلال السنوات الأخيرة. الأمر الذي أعطى انطباعا بأن صياغة الحقائق تم في ضوء الحسابات السياسية وليس معطيات الواقع على الأرض.

ما همني في الموضوع أمران: الأول أن أحداث الثورة التي استغرقت 18 يوما لا يزال يكتنفها الغموض، بالتالي فإن كل ما قيل عن وقائع تلك المرحلة في حاجة إلى مراجعة وتدقيق. ولئن رددت الأبواق الإعلامية ادعاءات تحدثت عن تآمر جهات أجنبية لإطلاق الثورة، فإن القرائن المتوفرة تشير إلى أن التآمر الحقيقي تم في وقت لاحق من جانب الدولة العميقة لإجهاض الثورة وقلب حقائقها.

الأمر الثاني أن ذلك إذ كان قد حدث فيما خص أحداث الثورة وهي في عنفوانها، فأولى به أن يحدث باندفاع أكبر بعد سقوط نظام مبارك وحتى استعادة الدولة العميقة عافيتها في فترة المجلس العسكري وما تلاه. وهو ما يسوغ لي أن أقول بأن تاريخ الثورة وما تلاها لم يكتب بعد، وأن ما بين أيدينا من فصول ونصوص دبجتها الدولة العميقة لتواكب الريح السياسية وتصفي حساباتها.