ربيع الشاعر 

بعد مضيّ خمس سنوات على حضوري انتخابات تونس في عام 2011، أعود إليها في إطار آخر وهو اجتماع خريجي مركز جامعة ستانفورد للديموقراطية والتنمية وحكم القانون، مما سمح لي بتسجيل انطباعات جديدة حول نجاح الثورة التونسية وتجربة الحكم، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الانطباعات تمثل مشاهداتي في العاصمة تونس ذاتها والتي لا يمكن أن تلخص حال جميع التونسيين في المحافظات الأخرى حيث الشرخ الثقافي والحضاري والديني والسياسي كبير بين أهل «الساحل» وأهل الداخل.

ابحث عن المرأة والتاريخ

نجحت تونس في عبور المرحلة الانتقالية لما بعد الثورة بسلام وهذا عائد كما قال رئيس حزب حركة النهضة التونسي راشد الغنوشي في لقاء معنا إلى «طبيعة المؤسسة العسكرية التي ليس لها تاريخ في الانقلابات والى عدم وجود نفط في تونس»، إلّا أنني أضيف إلى هذه الأسباب أســباباً تتعلق بتناغم النسيج الطائفي حيث الغالبية الســـاحقة هي من أهل الـــسنة المتأثرين بأصولهم البربرية أو الأندلسية أو الإيطالية أو التركية أو حتى الفينيقية التي أغنت الانتماء العربي للشعب التونسي ومشــحته بزيت من غصن زيتون، فكان جامع الزيتونة بما له من أثر إيجابي على الفكر الإسلامي والمذهب المالــكي وتطور المفاهيم الدينية في تونس.

كما لا بد من الإشارة إلى موقع المرأة التونسية المتقدم في المجتمع وتنوّرها، حيث أعطاها القانون حقوقاً متقدمة ليس آخرها الحق في أن تتزوج من رجل غير مسلم والذي تم إقراره خلال وجودنا في تونس في منتصف شهر أيلول (سبتمبر) الجاري.

ربطة عنق الغنوشي

تمّ الانتقال السلمي أيضاً بفضل أداء حزب حركة النهضة الإسلامي الذي يظهر مرونة وبراغماتية عالية في التعاطي السياسي، على رغم فشله الذريع في إدارة البلاد بعد أول انتخابات ديموقراطية فيها وفوزه بغالبية كبيرة من المقاعد في المجلس التأسيسي. مرونة حركة النهضة عائدة إلى طبيعة شخصية زعيمها راشد الغنوشي الذي عاش فترة طويلة في منفاه البريطاني متأثراً بفكر الغرب القائم على الجدلية في مقاربة الأزمات وإيجاد حلول لها بدلاً من التسلط واستخدام العنف والتكفير. لقد تعلّم الشيخ الغنوشي من التجربة المصرية وفشل «الإخوان» هناك وانكفأ مع حزبه الى الخطوط الخلفية بعد خسارته المركز الأول في الانتخابات النيابية الأخيرة أمام حزب نداء تونس الذي أسسه رئيس تونس الحالي المخضرم الباجي قائد السبسي. في المقابل، ارتكز السبسي على زخم كبير من التيار العلماني التونسي وفي مقدمه نساء تونس اللواتي رفضن محاولة النهضة إعادة أسلمة الدولة بالترهيب والترغيب، ولم يثقن بربطة العنق التي بدأ الشيخ الغنوشي مؤخراً بارتدائها لأنهن يدركن أن لحيته عاجلاً أم آجلاً ستغطي ربطة عنقه!

في الحقيقة، سعت حركة النهضة منذ اللحظة الأولى لتوليها السلطة إلى زرع رجالاتها في جميع المراكز الحساسة وعينت وزراءها من بين مناضليها الذين اعتقلوا أيام حقبة الرئيس زين العابدين بن علي، من دون أن تدرك أن من له شرعية النضال والسجن لا يملك حكماً شرعية الحكم بكفاءة تتلاءم مع متطلبات العصر الاقتصادية والمالية والإدارية. طبع الهاجس الأمني حقبة حكم النهضة إن لجهة التفجيرات والاغتيالات التي طاولت مناضلين علمانيين وأماكن عامة وقوى أمنية أم لجهة اعتداءات وممارسات قمعية قام بها تونسيون متطرفون، في محاولة لإرهاب أي فكر يخالفهم كحرق السلفيين أكثر من أربعين مقاماً صوفياً في البلاد رفضاً منهم لوجود أي مذهب آخر لا عنفي داخل الإسلام. كما انطبعت هذه الحقبة بتجنيد الكثير من التونسيين للقتال إلى جانب «داعش» وإقامة الخلافة الإسلامية في بلاد الشام، مع ما لذلك من تداعيات سلبية على صورة تونس في الخارج وعلى استقرارها الداخلي. كل هذا دفع بحركة النهضة تحت الضغط الشعبي إلى التخلي عن الحكم سلمياً والمشاركة في تشكيل حكومة وفاق وطني محايدة لإدارة الانتخابات، برئاسة السيد مهدي جمعة الذي أدار حكومته بتكنوقراطية ومهنية محترماً التزامه بعدم الترشح للانتخابات.

من يمثل الشعب التونسي؟

إن قانون الانتخابات الذي وضع لانتخاب المجلس التأسيسي والقائم على نظام النسبية ضمن لوائح مغلقة، لم يكن مناسباً للمرحلة الانتقالية الثانية في العام 2014، حيث كان يجب أن تتشكل أكثرية واضحة في المجلس تستطيع أن تحكم في مقابل معارضة قادرة على العودة إلى السلطة إذا أحسنت الأداء. فهذا القانون لا يمكن أن يطبق في وجود نحو 208 أحزاب تتنافس على لوائح انتخابية مختلفة، وقد وصل في الانتخابات الأخيرة معدل عددها إلى نحو 40 لائحة متنافسة في كل دائرة انتخابية. هذا أدى إلى عدم وضوح في الرؤية لدى الكثيرين من الناخبين وعدم اقتراع حوالى 60 في المئة منهم، ما شكّل تراجعاً فاضحاً بنسبة المشاركة في الانتخابات عن عام 2011. كما أدى تعدّد اللوائح والأحزاب في ظل النظام النسبي والأوراق البيضاء والأوراق الملغاة، إلى عدم تمكن حوالى 15 في المئة من المقترعين من إيصال أي مرشح لهم إلى الندوة البرلمانية! هذا يعني أن الأحزاب الفائزة في الانتخابات البرلمانية في تونس لا تمثل أكثر من 40 في المئة من العدد الإجمالي للناخبين، أي هي تمثل فقط حوالى 2.8 مليون ناخب من أصل سبعة ملايين يحق لهم الانتخاب.

هذا يعني أيضاً أن حوالى 60 في المئة من الشعب التونسي غير ممثل في المجلس النيابي، خصوصاً فئة الشباب الذين يبدي 7 في المئة منهم فقط اهتمامه في الشأن السياسي. إن تراجع ثقة الناخبين بالمرشحين يعود إلى أن المرشحين يفضّلون مصلحة أحزابهم على حساب مصلحة الدولة، مما يؤدي إلى تفشي الفساد والمحسوبية، بالإضافة إلى عدم كفاءة من يتولى المناصب العامة. لقد أدى عدم بروز أكثرية واضحة للحكم داخل المجلس النيابي إلى ضعف في الأداء الحكومي وتردد في اتخاذ القرارات، حيث أصبح وضع تونس اليوم شبيهاً بوضع فرنسا أيام الجمهورية الثالثة، فقد تم تشكيل نحو ثماني حكومات في سبع سنوات وهذا بالطبع لا يسمح ببناء استراتيجية واضحة للدولة أو بضمان استمرارية في الحكم وثبات في الإصلاح، مما يدفع أيضاً بالكثير من الكفاءات إلى التردُّد في قبول أي عرض لتبوؤ المناصب الحكومية.

هويّة تونس: اقتصاد ودستور

هذا التخبط على الصعيد الحكومي أدى إلى فشل اقتصادي خطير أصبحت فيه نسبة الدين العام 70 في المئة من الدخل القومي، بعد أن كانت 40 في المئة وزاد حجم هذا الدين من 25 بليون دينار تونسي إلى 70 بليوناً أي بزيادة ثلاثة أضعاف تقريباً، ما أدى إلى تدهور سعر صرف الدينار وخسارته حوالى 50 في المئة من قيمته وتنامي السوق السوداء بحيث أصبحت تشكل 35 في المئة من حجم الاقتصاد، وخصوصاً على الحدود مع ليبيا والجزائر بما ساهم في تمويل الإرهاب والجريمة المنظمة. والأدهى من كل ذلك نسبة البطالة بين الشباب التي وصلت إلى 30 في المئة من بين الحائزين على شهادات جامعية. هذه كلها قنابل موقوتة ستهدد الاستقرار الهش الذي تمرّ به تونس. فالديمقراطية هي نضال يومي لا يمكن الاستكانة فيه، كما أن أدوات ممارسة السياسة اختلفت في عصرنا عما كان يعتمد في القرن الفائت. لذا لا يمكن أن يستمر التونسيون في جدالاتهم العقيمة عن الهوية الوطنية أو العربية أو الإسلامية من دون الانكباب على طرح الأسئلة المفيدة وإيجاد الحلول الموجعة لمشاكلهم، لأن الاستمرار في هذا الجدل العقيم لن يغني الفقراء ولن يبني الاقتصاد ولن يطوّر التعليم ولن ينمّي الثقافة ولن يعزّز الصناعة ولن يزيد من الابتكار ولن يخلق الوظائف ولن يحمي البيئة ولن يخفض معدل الوفيات ولن يحل مشاكل النقل والتكنولوجيا والاتصالات والخدمات الاجتماعية.

ما يفيد تونس هو تطبيق دستورها لجهة تطوير الحكم المحلي واللامركزية الإدارية، فلم يعد ينفع تأجيل الانتخابات البلدية للمرة الرابعة تحت أي حجة كانت. إن الانتخابات البلدية تجدد النخب السياسية وتخفف من المركزية القاتلة وتنعش المناطق النائية، شرط احترام التوزيع العادل للثروات. كما أن تونس في حاجة إلى قضاء مستقل تماماً عن السلطة التنفيذية، لكي لا يتهم كما يتهم اليوم بأنه يتهاون في مكافحة الإرهاب أو أنه يخضع لهيمنة السلطة التنفيذية التي تتحكم في تعييناته. فمن دون استقلالية القضاء لا ثقة بالاقتصاد ولن تعود الاستثمارات الخارجية ولن يسود العدل الذي هو أساس الملك. وفي هذا السياق، على تونس أن تنشئ محكمة دستورية تضمن تفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين من خلال السماح للمواطنين ولكل صاحب صفة بالطعن بدستورية القوانين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من طريق الدفوع أمام المحاكم. ستشكل المحكمة الدستورية ضمانة ثابتة لاحترام دستور تونس العصري وروحيته المبنية على المبادئ العالمية لحقوق الإنسان. وعلى تونس أيضاً ألا تقع في فخ المطالبة باعتماد نظام رئاسي بحجة أن النظام البرلماني لم ينجح كما يدعي حزب حركة النهضة، لأن النظام الرئاسي، في الدول العربية التي ليس لها تاريخ ديموقراطي حافل، سيسهّل الجنوح السريع نحو الديكتاتورية. وللتذكير، لا تمكن مقارنة تونس بالولايات المتحدة، حيث هناك توازن في صلاحيات السلطات الدستورية يمنع رئيساً مثل دونالد ترامب من تنفيذ غرائزه والجنوح نحو نوع من الديكتاتورية أو العنصرية.

 

هل يسقط مبدأ التوافق أمام الانتخابات المقبلة؟

اعتمدت الطبقة السياسية التونسية مبدأ التوافق، ما دفع الرئيس الباجي قائد السبسي إلى احتواء حزب حركة النهضة وإن من خلال تعيين وزير واحد للحزب في أولى حكوماته. هذا التهاون مع حزب النهضة أدى إلى شرخ في حزب نداء تونس دفع به إلى أن يكون ثاني قوة سياسية في البلد، بعدما اكتسح الانتخابات عام 2014. إلا أنه مع اقتراب الانتخابات المقبلة وأمام فشل الحكومات المتوالية في إيجاد حل للأزمة الاقتصادية المتفاقمة، يبدو أن العودة إلى المربع الأول، القائم على تقسيم التونسيين إلى معسكرين، واحد إسلامي يدعم حركة النهضة وثانٍ علماني ضدها، هي المنطق الذي سيغلب على المرحلة المقبلة. وقد بدأ الرئيس التونسي يعطي بعضاً من بوادر هذا التوجه من خلال تصريحه الذي شكك فيه في مدنية حزب حركة النهضة الإسلامية، وأبدى ندمه على التحالف معه. وقد جاء هذا التصريح إثر مطالبة السبسي بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، بينما تتهم حركة النهضة بأن لديها أجندة سريّة لتغيير النمط المجتمعي التونسي بالقوة وقلب النظام السياسي القائم. وجاء التعديل الوزاري الأخير في سياق البدء في فك الارتباط مع حركة النهضة، حيث عيّن وزير داخلية من صلب المؤسسة العسكرية معروف بمواقفه المعادية لحركة النهضة، كما أن تغيير وزير الدفاع يشير إلى أن الهاجس الأمني ما زال طاغياً، ناهيك بالعودة إلى الاستعانة ببعض الوجوه الوزارية التي خدمت في حكومات الرئيس المخلوع بن علي. في سياق موازٍ، إن الحملة على الفساد التي قام بها رئيس الوزراء الشاب يوسف الشاهد لم تأتِ ثمارها، ويتهمه بعضهم بأن لديه هو الآخر أجندة سياسية للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في حال عزوف الرئيس الحالي عن ذلك، ولذا بادر إلى تقليم أظافر بعض التجار والسياسيين المشاكسين سعياً وراء التكسب الشعبي ورغبة في إلهاء المواطنين عن لبّ المشكلة الحقيقية وهو إعطاء الأولوية للاقتصاد. وقد اكتفى التعديل الوزاري الأخير بتعيين وزير جديد لدى رئيس الحكومة مكلف متابعة الإصلاحات الكبرى، من دون أن نعرف حتى الآن ما هي هذه الإصلاحات؟ وما مدى جدية السلطة في تنفيذها؟

 

المجتمع الدولي ونظرية المؤامرة

لا يمكن أن نعتبر أن نجاح تونس في تجربتها الانتقالية من حكم الاستبداد إلى حكم الديموقراطية هو نجاح كامل ونهائي. فكما يقول رئيس حزب حركة النهضة أن «المحيط العربي ليس مساعداً لنمو التجربة الديموقراطية، حيث إن أكثر من نظام عربي ينظر إلى النظام التونسي على أنه تهديد مباشر له يستدعي منه إفشال هذه التجربة حتى يقتنع العرب بأنهم لا يصلحون للحرية وبأن الاستبداد هو الطريق الوحيد والضروري». هذا ما أكده ربما إبعاد السلطات التونسية الأمير المغربي مولاي هشام العلوي من الأراضي التونسية باتجاه فرنسا بعد ساعات على وصوله إلى العاصمة التونسية للمشاركة في طاولة مستديرة عقدها خريجو مركز جامعة ستانفورد للديموقراطية والتنمية وحكم القانون، ودعي إليها أيضاً رئيس وزراء تونس السابق السيد الحبيب الصيد ورئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي وغيرهما من الشخصيات الدولية والتونسية. هذا الترحيل لم يأتِ بالطبع بطلب من آل الصلح أخوال مولاي هشام اللبنانيين وأنسباء رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح، بل جاء بناء على طلب من خارج الحدود ولأهداف معروفة، ما شكّل طعنة كبيرة في خاصرة الديموقراطية التونسية الرخوة. وهذا أمر يمكن أن يتكرر للأسف لأن تونس بلد صغير متواضع القدرات لا يمكنه مواجهة بعض رغبات جيرانه التي لها علاقة باستقرار أمنهم الداخلي كما يدعون، بما سيدفع النظام في تونس على مضض إلى الرضوخ لهذه الرغبات حفاظاً منه على التنسيق الأمني مع الجيران ومنعاً لأي اضطراب داخلي أو على الحدود.

في محاذاة هاجس تدخل الدول الإقليمية في الشأن التونسي، لم أشعر بوجود ثقة بين الشعب التونسي والمجتمع الدولي. فغلاة العلمانيين ما زالوا يؤمنون بنظرية المؤامرة التي تديرها الولايات المتحدة وأوروبا لدولة تونس بشكل خاص وللدول العربية بشكل عام، من أجل ضرب الحركات العلمانية المتحررة وتدعيم موقف التيارات الإسلامية التي هدفها نشر الفوضى والتخلف، وفق رأي هؤلاء العلمانيين، مما يمنع البلاد العربية من تحقيق ثورة اقتصادية ومعرفية ستشكل تهديداً للغرب وتحدّ من قدراته على استغلال الثروات العربية. وهؤلاء يدعّمون نظريتهم بالإشارة إلى المبلغ الزهيد الذي يرصده الاتحاد الأوروبي سنوياً لمساعدة تونس والذي لا يتجاوز الـ300 مليون يورو، كما أن سفارة الولايات المتحدة ترصد نصف هذا المبلغ أي 150 مليون دولار سنوياً وتدّعي بأنها تحارب الإرهاب في تونس وتريد ترسيخ الديموقراطية فيها. هذا الازدواج في خطاب دول المجتمع الدولي المتحضر وأفعالها يدفع الرأي العام التونسي العلماني إلى الارتماء في حضن دول مثل روسيا، حيث لم ينس التونسيون النداءات التي وجهها الرئيس الروسي بوتين لحض مواطنيه على التوجّه لتمضية عطلهم في تونس دعماً منهم للسياحة فيها بعد حملة التفجيرات. بينما في المقابل، حذّرت السفارات الغربية رعاياها من البقاء في تونس أو من التوجه إليها، بما أدى إلى شلّ حركة السياحة التي هي العمود الفقري للاقتصاد التونسي. إن صدقية المجتمع الدولي على المحك في تونس وهو مطالب في الوقت ذاته من مسؤولي حركة النهضة ومن المسؤولين في الأحزاب العلمانية بدعم الاقتصاد التونسي من خلال مشروع مارشال جديد لا يتطلّب مبالغ كبيرة ولكنه يمكّن تونس من إنقاذ قطاع التعليم فيها وتطويره من أجل نشر الوعي وإعداد رأي عام منفتح على التجارب المفيدة ويد عاملة كفوءة ومن أجل إصلاح قطاع الإدارة العامة وغير ذلك من القطاعات الأساسية، وتفعيل المحاسبة والخدمات بما يضمن ازدهار تونس من جديد وخلق فرص عمل وقيام طبقة وسطى متمكنة مهنياً وثقافياً، كشرط أساسي لبناء الدولة وتدعيم الديموقراطية وإنقاذ الثورة.

يتلقى ممثلو الدول الأجنبية هذه المطالب بسخرية أو بحذر، فهناك من يهمس بأنه لو كان المسؤولون التونسيون جديين في وقف الهدر ومكافحة الفساد لاستطاعوا سد عجز الدين واستقطاب الاستثمارات الأجنبية بما يشجع الغرب على زيادة دعمه لهم. لا أحد يشك في إعطاء الغرب دائماً الأولوية لمصالحه التي قد تتضارب أحياناً مع مصالح تونس، لكن التحجج الدائم لبعض التونسيين بنظرية المؤامرة هو إما نابع من عدم القدرة على تحمل المسؤولية أو نتيجة كسل يقضي بإلقاء اللوم على الآخرين للتنصل من أي مسؤولية، أو أخيراً نتيجة جهل ناجم عن قصور في استيعاب حجم المسؤولية وطريقة مواجهتها. وفي الحالات الثلاث، تبقى مسؤولية التونسيين في إنقاذ ثورتهم وإصلاح دولتهم أكبر بكثير من مسؤولية الدول الأجنبية صديقة كانت أم عدوة.

ماذا بعد السبسي؟

تتميز تونس بحجمها ومشاكلها وقدراتها التي تسمح لرئيس كالسبسي بخوض انتخابات شعارها الأساسي ضد حركة النهضة الإسلامية والعودة فور انتخابه إلى التنسيق معها وإشراكها في الحكومة والسلطة. هذا ما جنّب تونس ربما حمامات من الدم. ولكن السبسي كما الغنوشي في مرحلة متقدمة من العمر تدفع إلى التفكير بمن سيخلفهما ومدى تأثير ذلك على تونس واستقرارها. فهل سيسقط السبسي في خطيئة محاولة توريث ابنه حافظ؟ أم سيترك حزباً مهشماً بخلافات ضباطه؟ هل سيترشح للانتخابات المقبلة أم سيعطي الشرعية لجيل جديد يشبه الغد الذي تحلم به تونس؟ وماذا بعد الغنوشي؟ هل ستعود النهضة إلى خطابها التعبوي المنغلق والمتطرف؟ هل ستستمر في اعتماد منهجية التقية التي لم تعد خافية على أحد؟ هل ستمضي على خطى رئيسها نحو المزيد من الانفتاح يشبه تطور المفاهيم الإسلامية في تونس؟

شيخا تونس ما بعد الثورة هرما، على أمل بألا تهرم معهما المكتسبات الديموقراطية للثورة. هذا يمرّ حتماً ببناء مؤسسات لا ترتبط بأشخاص مهما كبر شأنهم.

عيون العالم شاخصة على تونس لا لموقعها الجيواستراتيجي ولا لحجم اقتصادها، بل لدورها الإنساني في تحرير المرأة العربية ودورها التاريخي في مواجهة استبداد الأنظمة القمعية ودورها الحضاري في إثبات أن التآلف ممكن بين العلمانية والإسلام في الدول العربية.