قيادة المرأة للسيارة في السعودية: مخاض عسير ودروس لا تنسى

لبنى بنت عبد الرحمن الأنصاري

 لم يحظَ موضوع باهتمام الجميع في المملكة العربية السعودية كما حظيت مواضيع المرأة بشكل عام وموضوع قيادة المرأة للسيارة بشكل خاص. لم تكن المرأة في المملكة هي الوحيدة في العالم التي لا يسمح مجتمعها لها بقيادة السيارة في القرن الماضي.

وفي معظم بلدان العالم لم تُمنح المرأة رخصة القيادة إلا بعد سنوات من حصول الرجل عليها، ولكن بنهاية الثمانينات حصلت المرأة على حق استخراج رخصة القيادة في شتى أنحاء العالم وبقيت المرأة في المملكة هي الوحيدة في العالم التي لا يمكنها قيادة السيارة على أرض الوطن حتى وإن حصلت على رخصة قيادة دولية.
لماذا تأخر اتخاذ هذا القرار؟! شهدنا في مطلع التسعينات محاولة من بعض السيدات الفاضلات التعبير عن رغبتهن في السماح لهن بقيادة السيارة، ولكن هذه المحاولة لم تحظ بالقبول لأسباب عديدة. ولست هنا بصدد تقييم هذه التجربة، فأنا مؤمنة بأن التدرج أمر فعال في تحريك عجلة تغيير الشعوب للاتجاه الصحيح، ولكني أود أن أشير إلى أن ما قيل عن قيادة المرأة للسيارة في ذلك الحين كان كفيلاً بأن يؤجل اتخاذ هذا القرار لثلاثة عقود. لم يتأخر هذا القرار لإرادة سياسية، فقد أوضح ولاة الأمر في مناسبات عديدة أن هذا قرار مجتمعي ولم يكن في نظام المرور ما يسمح للرجل بالحصول على رخصة قيادة دون المرأة، ولكن جزءاً من المجتمع كان صوته قوياً. وكان هذا الصوت القوي يرى أن الحكم في قيادة المرأة يتراوح بين التحريم وعدم الجواز لما تفضي إليه من مفاسد كالسفور والتبرج والاختلاط. ولعل جهود الزملاء في مجلس الشورى وما تلا ذلك من جهد الزميلات بعد دخولهن مجلس الشورى قد أثمر بعض الشيء في تشكيل قناعة بأن قيادة المرأة للسيارة ربما ليست محرمة ولكن قائمة المفاسد طويلة وخطيرة، بالإضافة إلى أننا «لسنا جاهزين» دون توضيح معنى الجاهزية، بل فسرها كلٌ على هواه. كان سجالاً طويلاً ومؤلماً وحري بنا أن نتعلم منه الكثير حتى لا يؤخرنا في قضايا أخرى مستقبلية.
قضيت ما يزيد على عقدين من عمري أعمل في مجال الرعاية الصحية المبنية على البراهين. ويقتضي أسلوب الاستناد إلى الأدلة والبراهين أن يرجع مُتَخِذ القرار إلى أفضل الأدلة المستقاة من البحوث العلمية عند صناعة الرأي دون إغفال الخبرات المتراكمة ولا تفضيلات المرضى والمجتمع. هذا التوجه يعني أنه لا تتخذ القرارات بناء على الآراء أو الرغبات الشخصية ولا على الحدس أو التخمين أو الخبرات المحدودة. بل المطلوب أن نتخذ أسلوباً منهجياً محايداً ننظر من خلاله إلى نتائج التجارب العلمية وتجارب المجتمعات وكل ما يمكن أن يرقى إلى الاعتراف به كدليل أو برهان. وحينما ندرس التجربة ننظر إلى المنافع من استخدام دواء أو تقنية ما وإلى المضار ونأخذ برأي جميع الأطراف المعنية دون أن نستأثر - نحن الأطباء أو العاملين في القطاع الصحي - بقرارات «أبوية» دون أخذ رأي المريض بعد أن يستنير بكل المعلومات.
وأعود إلى الآراء السابق ذكرها، هل عاد أصحابها إلى الأسس الصحيحة ليستنبطوها؟ هل اجتهدوا في أن ينظروا للأمور بمنظور شمولي متزن يتناول مزايا ومساوئ قيادة المرأة وتسهيل حرية التنقل لها، أم أن المنظور ركز على زاوية السلبيات النادر حدوثها وترك فضاء الإيجابيات الواسع؟ كيف أصبح الأصل في الموضوع الإباحة كما أوضحت مشكورة هيئة كبار العلماء فور صدور الأمر السامي من خادم الحرمين الشريفين؟ كنت أتمنى أن تتبنى هيئة كبار العلماء قبل ثلاثين عاماً مبدأ «الأصل في الموضوع الإباحة» كما تبنته الهيئة الآن لتمهيد المجتمع لقبول القرار، ولا بأس لو ذكروا في ذلك الحين أن هناك حيثيات يَرَوْن تأجيل السماح بسببها. كان النقاش سيتركز حينها بموضوعية على هذه الحيثيات فقط وتذليل الصعاب إن كانت فعلاً موجودة والاستفادة من تجارب الشعوب.
لقد أثقل عدم قيادة المرأة للسيارة في المملكة على كثير من السعوديات الجامعيات الراغبات في الحصول على وظيفة؛ مما جعل البطالة بينهن مرتفعة تصل إلى 35 في المائة أو تزيد، والسبب عدم توفر المواصلات. أليس هذا هدرا للموارد؟ كم أنفقت الدولة على تعليمهن؟ ولماذا يحتل الوافدون والوافدات مكانها (مع الاحترام لكل الجنسيات)؟ لماذا سمح لملايين الرجال الأغراب من جنسيات مختلفة بقيادة السيارات التي تقلّ بناتنا من مكان لآخر؟ هل كان الهدف هو الحفاظ على المرأة فعلاً؟ أم أن هناك حاجزاً وهمياً يهدف إلى بقاء المرأة بعيداً عن المشاركة في تنمية وطنها وقصر دورها على الإنجاب فقط (على مستوى الأسرة) دون الإنتاج (على المستوى الوطني)؟

ليس فقط على الصعيد المحلي، بل أثقل هذا الأمر على المملكة في المحافل الدولية وربما أساء لسمعة ديننا لدى من لا يفهمون الإسلام جيداً، وأوقع الدول الإسلامية التي تكنّ الكثير من الاحترام والتقدير للمملكة في حرج كبير، إذ كيف تسمح هذه الدول لنسائها بقيادة السيارة بينما لا تسمح المملكة بلاد الحرمين بذلك!
منذ أن أعطى الملك سلمان الحزم الأمر السامي بتطبيق نظام المرور والسماح للمرأة بالقيادة أصبح ذلك ماضياً، ولكن لا بد أن نتعلم من هذا الجزء من التاريخ حتى لا نكون أمة تكرر أخطاءها ولا تتقدم للأمام. لا بد من الشفافية في اتخاذ القرارات والاستناد إلى الحجج الصحيحة وليس الانطباعات الواهية، ولا بد من إرساء مبدأ الفرص المتكافئة لكل عناصر المجتمع وأطيافه. وجاء الأمر السامي مؤكداً ذلك ومؤذناً بانطلاقة واسعة للمملكة في مسيرتها التقدمية متحلية بدينها الإسلامي الحنيف والشريعة الغراء لتكون خير أمة أخرجت للناس، وكان هذا الأمر السامي بالفعل أجمل هدية من الملك سلمان لأبناء وبنات الوطن في عيدهم الوطني و«دام عزك يا وطني».