محمد الرميحي

 استخدم السيد عمرو موسى كلمة «كتابيه» لتوضع عنواناً لمذكراته التي صدرت قبل أسابيع. كلمة «كتابيه»، الموفَّقة، بوصفها عنواناً مستعاراً من الآية القرآنية الكريمة رقم 19 من سورة الحاقة «هاؤُم اقرأوا كتابيه»، تعني في مجملها، كما يقول المفسرون، فرح العبد حيث يعلم أن الذي في كتابه خير وحسنات، لذلك اخترتُ العنوان السابق للمقال للتعليق على الكتاب، الآية رقم 29 من السورة نفسها: «هلك عني سُلطانيه»،

التي في أحد معانيها «ضلَّت عني حُجتي»، للتعبير عن نَقْد تلك المذكرات. عنوان الكتاب مميز، خصوصاً لأهل الذائقة الأدبية، فهو مختصَر، له علاقة بالتراث الديني العميق للمسلم والعربي، مما يجعل له صدى في الذاكرة. أما ما بعد العنوان فيحتاج إلى وقفة، لأن ما تصدى له السيد عمرو موسى ليس خاصّاً به، إنما بجيل وأمة، شارك هو في صياغة بعض مشاهد نتائج سياسات اتُّخِذت نيابة عنها، وكان في مكان ما من صيرورتها ملمّاً بأسبابها، لكونه مسؤولاً في أكبر دولة عربية أولاً وزيراً للخارجية، وثانياً مسؤولاً أول للجامعة العربية، في بحر عقدين من الزمان (على الأقل)، وفي مرحلة صعبة من تاريخ العرب المعاصر.


كتابة المذكرات في فضائنا العربي عملية ليست سهلة، لأن الثقافة العربية تُضَيّق على الكاتب ما يرغب في أن يقوله بحرية، أو بحرية نسبية، فالتوازنات والإحراجات و«المجاملات»، وبعض الأحيان، الخروج عن المساق المعروف، أو حتى الخلط في الحقائق، تجعل من أي مذكرات شخصية «ناقصة وإن حاولت التمام»، إلا أن كتاب الأمين العام الأسبق يحمل شفافية وصراحة معقولة. منهج السرد، وقد استعان السيد عمرو بمحرر للمذكرات هو الأستاذ خالد أبو بكر، منهج تنقصه الدقة المطلوبة في مثل هذا الأمر، فقط على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن هناك «ثغرات» كان يمكن بسهولة نسبية تفاديها، ففي كثير من مناطق السرد يأتي الكاتب على أسماء أشخاص، كقوله: «كنتُ مع السفير محمد شكري القنصل العام في زيوريخ، وكان معنا اثنان لا أذكرهما»! (صفحة 85)، أو كقوله: «كان الذي يأتي إلى سويسرا لأخذ غذاء الرجيم لعبد الناصر (رجل ضخم)»، وتحدث في عبارات كثيرة عن تجاذب الحديث مع الرجل الضخم، ولكنه لم يذكر اسمه! وقوله: «القاضي الذي تنبأ لي بأن أكون وزيرا للعدل... ضياء الدين... ولم أعد أذكر اسمه الأول»! (صفحة 62)، أو عند الحديث عن الزعماء الخمسة لثورة الجزائر (صفحة 68) (بن بلة وزملاؤه) فهو يذكر أسماءً أربعة، مع العلم أن جيلنا يحفظ الأغنية الشهيرة التي كانت تُذاع من «صوت العرب»، وغناها المطرب كارم محمود، بعنوان «باسم الأحرار الخمسة، ما نفوتش التار (الثأر) يا فرنسا»! مثل هذه الأمور ما كانت لتخطئها عين محرر فطن، لأن الوثائق موجودة، والأرشيف الرسمي أو غير الرسمي، كالصحف والمجلات أو شهود العيان وغيرها من وسائل التحقق من المعلومات، متاح، وكان يمكن سد ثغراتها.
أي قارئ لمذكرات الفاعلين في دول كثيرة يلحظ جهداً من المحرر لإتمام السياق وضبط التسلسل وسد الثغرات، كي يكون القارئ على دراية أوضح بالأحداث. كما أن هناك منهجية أخرى مغلقة، فقد بدا في التعريفات ظهور حيرة كاتب المذكرات أو المحرر من حيث توصيف حدث ضخم، وهو ما عُرف بثورة يوليو المصرية، في الإشارة إليها في صفحة 88 يقول: «عبد الناصر زعيم انقلاب، ثورة 1952»، فالحديث عن ثورة شيء والحديث عن انقلاب شيء آخر!
أعرف أن هذه الملاحظات المنهجية لا تقلل من قيمة «المذكرات»، فهي وإنْ أتت في شكل كثير من النقد لمنهجية إدارة بلاد كبيرة ومركزية كمصر، لا تخرج القارئ من حيرة السؤال: لماذا لم يدقق في أحداثها المهمة، وأسماء الفاعلين فيها من مصادر أخرى متاحة، لتكتمل الصورة، أو تكاد، لدى القارئ؟


على مقلب آخر لا يخفي السيد عمرو موسى حيرته العميقة في مسار الإدارة المصرية تقريباً منذ «انقلاب، ثورة 52»، على حد تعبيره، حتى ثورة 2011 كما عبَّر، أي سبعين سنة من المسيرة، وهو لا يُخفي أنه «كان ناصرياً حتى هزيمة 67»، كما سماها، واستهجن أن تُوصف بأنها «نكسة»، إلا أنه كان مشاركاً في بقية سنوات إدارة البلاد بعد ذلك. قال بصريح العبارة في صفحة 84 وما بعدها: «هزيمة يونيو 67 لم تكن عسكرية، بل كانت كاملة كاشفة، وقد صحح السادات الجانب العسكري! ولكن لا هو ولا عبد الناصر من قبله، ولا حسني مبارك من بعده، حاولوا التعامل مع التراجع في مؤشرات المجتمع المصري وأدائه». ثم يكمل: «لم يفطن أي منهم إلى التراجع الخطير الذي جرى لصحة الكيان المصري»، وهي إشارات لا تحتمل التأويل إلى إدانة عصر كامل من الممارسة السياسية بكل أبعادها.
يعلِّل ذلك بمقولة رُددت كثيراً، وهي خطيئة «الاستعانة بأهل الثقة لا بأهل الخبرة»! في إدارة الشأن العام، هنا شيء من التناقض (لأن عمرو لمحبيه من الاثنين معاً!)، ثم أشار في تحذير واضح إلى المستقبل: «إذا لم تُعالج العلة تتحوّل إلى كارثة»! ثم يُثني السيد عمرو، من جانب، على المؤسسات الفاعلة في مصر في الخمسينات والستينات، خصوصاً مؤسسة وزارة الخارجية التي يكنّ لها شعوراً إيجابيّاً عميقاً، حتى في سياساتها قبل ثورة يوليو، ودور مصطفى النحاس زعيم الوفد في بلورتها، وقد أكمل (كما قال عبد الناصر) استمرار عمل تلك المؤسسات بما فيها الخارجية، إلا أنه سرعان ما يستثني العمل المؤسسي عندما يصل، كما شرح، إلى «الزوايا السياسية ذات العلاقة المباشرة بشخص الرئيس، وعلاقته بالمشير عبد الحكيم عامر والمؤسسة العسكرية، وقراراته العليا والمنفردة، التي يتم فيها تجاهل هذه المؤسسات»! التساؤل هنا أنه بعد كل تلك الاستثناءات، ماذا بقي من مؤسسات؟!
الصدمة التي تلقاها عمرو موسى بعد الهزيمة بقيَتْ معه كامنة، حتى كتابة المذكرات التي بين أيدينا، لكن المفتاح، كما قال، تنَبَّه إليه بعد أن أصبح سفيراً لمصر لدى الهند، فيقول: «في هذه الأثناء تبلور في ذهني أن حل مشكلات بلد مثل بلدنا هو الديمقراطية»، تأكد له ذلك في أثناء عمله في الأمم المتحدة وفي عمله سفيراً لدى الهند: «في الهند رأيتُ الديمقراطية الحقيقية، وأدركتُ كذب بعض الادعاءات التي تقول إن الفقر يمنع الديمقراطية، وإن وجود نسبة من الأمية يعوق الديمقراطية، لأن الهند كان فيها الفقر ولا يزال أضعافَ ما كان في مصر»، ثم ينتهي إلى القول: «أعتقد أن الذي أنقذ الهند من أزمات العالم الثالث، هو ديمقراطيتها، بالإضافة إلى حنكة وثقافة قيادتها».


لا يخطئ القارئ هنا إن لاحظ أن السيد عمرو موسى يسير في سياق التعميم، ربما المفارق للتحليل العلمي، بسبب أن الديمقراطية لها تجليات تساعد على تحقق كثير من عناصرها (الثقافة السائدة في المجتمع واحترام القوانين النابعة من الناس)، إذ إن الثقافة العربية بما فيها ثقافة النخبة، تنادي بالديمقراطية، وتمارس عكسها! لأنه لا المؤسسات نضجت، ولا ثقافة الطاعة تغيرت، فهي راسخة في مناهج التعليم ومنابر الخطابة ودواوين البيروقراطية. الأكثر من ذلك أنه عندما كان في الهند، ولو نظر شرقاً قليلاً إلى الصين، لوجد ما يناقض تعميمه، فالصين نمت وتفوقت دون «صناديق انتخاب»، المحك هنا هو «الإرادة والإدارة» مجتمعتين. لا يخفي عمرو موسى ارتياحه لمعركة 1973 التي أرجعت لمصر في نهاية المطاف جزءاً كبيراً من أرضها، وقد ترك عدداً من الصفحات للحديث عنها وعن نتائجها، وأمس كانت ذكراها، لم يذكر ما أصبح معروفاً من «تسريب معلومات خطيرة» حول خطة الهجوم 1973، التي ظهرت تفاصيلها في كتاب لم يعد أحد من المهتمين بالشأن العام يجهله، وهو بعنوان «الملاك»، تلك الشخصية التي ما زالت مسكوتاً عنها سلباً أو إيجاباً، وعن دورها في تلك المعركة المصيرية، وقد توفر عنها معلومات حتى الآن أنها قد «قلَّصت» من النصر، وعرّضَت دماء المصريين للمتاجرة! هذه قصة لا بد أن السيد عمرو يعرفها، أو يعرف جزءاً لا بأس به منها، وبانتظار شفافيته في سردها في الآتي من «كتابيه».
آخر الكلام: قد تخبئ مذكرات السيد عمرو موسي أكثر مما تبيح حتى الآن، وفي انتظار القسمين التاليين، لعل نقاطاً أكثر توضع على الحروف!