الخوارج ودعاة التحرر تشابه المنطلقات وخطورة المآلات

محمد السعيدي

التفسير التاريخي لأحكام القرآن يعني القضاء على دلالة القرآن على الأحكام بالكلية، فما من حكم إلا ويمكن إلغاؤه وفق التفسير التاريخي حتى يبقى الناس بلا دين ولا تكاليف شرعية

شيء يعرفه جيداً معظم من لهم اشتغال بالمذاهب والتيارات والفلسفات، هو: أن الأفكار المتناقضة غالباً ما تتحد في بعض منطلقاتها أو المؤثرات الفكرية لتكوينها؛ لذلك يمكن أن نقرر: أن فحص المنطلقات ومدى اقترابها أو تباينها إحدى وسائل اختبار الأفكار وتمييز الفكرة الوسط من المتطرفة.
فالشيوعية والرأسمالية مثلاً تشتركان في انطلاق كلتيهما من النظرة إلى المال وأثره في حركة التاريخ، لذلك تَقَارَبَ عنوانا دستوريهما حتى كادا يكونان عنواناً واحدا؛ رأس المال لماركس وإنجلز، وثروة الأمم لآدم سميث.
وكذلك الفلسفتان: العدمية والوجودية، غالب توجهات روادهما تنطلق من إنكار الغاية لوجود الإنسان في هذه الأرض، (ولا أستثني من ذلك ما يسمونها: الوجودية المؤمنة، مذهب كيركجارد ومن تبعه).
والأمثلة كثيرة ويحتاج تحقيق هذه النظرية فيها إلى قليلِ تأملٍ وحسب.
وفي واقعنا الثقافي يمكن تطبيق هذه النظرية على أكثر التيارات تناقضا وأكثرها إشغالاً في الواقع الفكري المعاصر، وأعني التيارين الخارجي والتحرري؛ فرغم التناقض الظاهر بينهما إلا أنهما يلتقيان في نظريتيهما للنص الشرعي وأسلوب فهمه وكيفية التعامل معه، فالجهل بقواعد الفهم للنصوص والانحراف في التأويل سِمَة مشتركة بين الفريقين عند معالجة أي نص شرعي أو قاعدة أصولية؛ فبينما يصرف الخوارج آيات الوعيد إلى الكفر المخرج من الملة، ويفهمون آيات الجهاد دون اعتبار للمُخَصِّصَات والمُقَيِّدات، ويُخَصِّصُون آيات السِّلم والتخفيف دون مُخَصِّص.
ويفعل التحرريون الشيء نفسه مع مثل آيات الولاء والبراء وتكفير أهل الكتاب وبعض آيات الحدود وأحاديثها، وكثير من النصوص القرآنية والنبوية المتعلقة بالمرأة في أحكام كثيرة كفرض الحجاب وتنصيف الميراث والزواج من الكفار.
فالفريقان يتفقان في عدم مرجعية العلماء المتخصصين في الشريعة في استنباط الأحكام من النصوص، ويتفقان في عدم اعتبار القواعد العلمية التي اعتمدها العلماء منذ فجر الرسالة للاستنباط. 
وربما كان الجهل الذي يعاني منه الخوارج جهلاً مركباً، حيث إن أكثرهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، أما التحرريون فالغالب عليهم الجهل البسيط، فهم لا يعلمون ويعلمون أنهم لا يعلمون، لكنهم يتعمدون الحديث فيما لا يعلمون لغايات مختلفة، أبرزُها التبشير بمجتمع غير منتمٍ لماضيه وتراثه أخلاقيا وفكريا، متخذين من التأويلات الفاسدة لنصوص الشرع مناجل لقطع الصلة بين الأمة وصحيح تراثها.
أضرب هنا مثلاً من أعجب ما مر علي من تعاطي دعاة التحرر مع النصوص، إذ نشرت إحدى صحفنا مقالاً يتضمن إنكار أن يكون التسليم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم واجبا، وأن قوله تعالى ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾ مُخَصَّص بسبب نزوله، فلا تنطبق الآية بزعم المقال على غير زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ فهذه الآية لا توجب التسليم لله ورسوله على أحد من خلقه سوى زينب، وحتى هي لا يجب عليها التسليم إلا في قضية تزويجها من زيد بن حارثة!
فهذا المثال صارخ لما غلب على دعاة التحرر من نبذ كل قواعد الفهم والاستنباط، سواء الأصولية منها أو الفطرية، حينما يعمدون إلى محاولة هدم المُسَلَّمات، لأن التسليم لله ورسوله واجب حتى لو لم يرِد فيه آية أو حديث، فهو مقتضى الألوهية والربوبية ومقتضى إرسال الرسل، إذ لو لم يجب التسليم لله لما وجدت العبادة ولما وُجِد الدين ؛ فما بالنا وآيات وجوب طاعة الله ورسوله والتسليم لهما غزيرة في القرآن إما نصاً كقوله تعالى: ﴿فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ وإما ضمناً كقوله تعالى: ﴿تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين﴾، فمحاولة صاحب المقال الفرار من التسليم لله بتخصيص الآية بالسبب لن تجديه لكثرة الدلائل الفطرية والعقلية والنقلية؛ ولو سلمنا جدلا وتنزلاً صحة القول بالتخصيص بسبب النزول، فإن هذه الآية تبقى عصية على ذلك لتعدد العمومات والإطلاقات فيها؛ فألفاظ: مؤمن، مؤمنة، أمراً، الخيرة، أمرهم، قضى، يعص؛ تدور فائدتها بين العموم والإطلاق، بحيث لا يمكن لمتوسط في فهم اللغة أن يتجرأ على الزعم بتخصيصها بسبب نزولها.
وجرأة المقال في التخصيص دون مُخَصِّص هي عينها جرأة الخوارج حين يخصصون أولي الأمر في قوله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا أَطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر﴾ بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فالمنهج في تفسير النصوص بعيداً عن أقوال أهل العلم وقواعد الأصول مشترك بين الفريقين على تباينهما في التطبيق.
ويعود المقال ليُغْرِقَ في إنكار وجوب التسليم لله عز وجل فيطالب بإعادة النظر الفقهي في توريث المرأة على النصف من ميراث أخيها لأن هذا الحكم بزعمه يناسب مرحلة تاريخية مضت، كان الرجال ينفقون فيها على أخواتهم، وقد انصرمت تلك الحقبة فلم يعد الرجل ينفق على المرأة لذلك وجبت المساواة بينهما في كل أحوال الإرث.
والتفسير التاريخي لأحكام القرآن يعني القضاء على دلالة القرآن على الأحكام بالكلية، فما من حكم إلا ويمكن إلغاؤه وفق التفسير التاريخي حتى يبقى الناس بلا دين ولا تكاليف شرعية؛ فالصلاة على هذا المنهج يمكن أن يقال إنها فرضت بهذه الأوصاف والأوقات مراعاة لذلك العصر لنزع العواطف الوثنية من القلوب، والزكاة كانت حيث لم يكن ثَمَّ ضرائب ولا جمعيات خيرية، والصوم تم فرضه كعلاج وقائي حين لم يكن هناك تقدم في الطب، وقطع السارق والجلد والرجم عقوبات فُرضت يوم لم يكن هناك سجن أو عقوبات بديلة؛ وهكذا تُستبدل قواعد الفهم الإسلامية الصحيحة بمناهج ابتكرها اليهود والنصارى في عصور التنوير الأوروبي لمحاولة فهم ما يستعصي فهمه على اللغة والعقل والفطرة من خرافات كتبهم المقدسة.
إن خوارج العصر أيضا لهم تاريخيتهم في فهم بعض النصوص التي يَقْصُرون دلالتها على زمن الرسالة كقوله تعالى ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإِن يكن منكم مائة صابِرة يغلبوا مائتينِ وإِن يكن منكم ألف يغلبوا ألفينِ بِإِذنِ الله والله مع الصابِرين﴾ ضاربين بالقواعد الأصولية للاستنباط عرض الحائط.
والحقيقة: أن كلا المنهجين متطرفان ويشكلان خطراً على بنية الأمة الاجتماعية والثقافية والسياسة؛ وكما أن الدولة قد حمت منابرنا الإعلامية والتعليمية من الدعوة الخارجية المصادمة لمقاصد الشرع ومصالحنا الدنيوية؛ فإن الفكر التحرري وإن بدأ ناعم الملمس فإن مآلاته الهدامة أعظم خطراً على مصالح الدين والدنيا؛ والأنظمة المرعية في بلادنا تمنع من استخدام دعاة هذا الفكر منابرنا الإعلامية في الترويج لنفسه عبر العدوان على القواعد الشرعية والأصول الاعتقادية، ليصل إلى ما وصل اليه هذا المقال من إنكار وجوب التسليم لله والرسول تحت غطاء التجديد الديني وتعديل طاولة الفقه.
إن النظام الأساسي للحكم ينص على أن الدولة تحمي عقيدة المسلمين؛ لذلك جاءت جميع الأنظمة مُجرِّمة لأي اعتداء على الدين؛ فمن الجرائم التي ينص على معاقبتها نظام الجرائم المعلوماتية: «إنتاج ما من شأنه المساس بالنظام العام أو القيم الدينية أو الآداب العامة»، وفي نظام المطبوعات والنشر من شروط النشر: «ألا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية»، وجاء في بيان وزارة الداخلية المتعلق بالجماعات المحظورة: التشكيك في ثوابت الدين الإسلامي التي قامت عليها هذه للبلاد.
فأي مساس بالقيم الدينية وأي مخالفة للشريعة الإسلامية وأي تشكيك في الثوابت أعظم من إنكار وجوب التسليم لله والرسول والقول بالتفسير التاريخي للوحي.
وأخيراً أقول: يبدو أننا اليوم في حاجة ماسة وملحة لترسيخ قيمة الأمانة على الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، كما نحن بحاجة لتوجيه الأجهزة الرقابية كي تحول دون عدول منشوراتنا الرسمية عن الجادة فتضيع وتضيعنا معها.