عاصم عبد الخالق

مصرع تسعة وخمسين شخصاً وإصابة أكثر من خمسمئة ليس حدثاً جللاً أو استثنائياً في وطننا العربي أو عالمنا الثالث ولكن في الولايات المتحدة الأمر يختلف. ولذلك اهتزت أمريكا كلها إثر جريمة إطلاق النار على الحفل الموسيقي في «لاس فيجاس» الأسبوع الماضي ما أسفر عن مصرع هذا العدد وهو الأكبر في تاريخ حوادث إطلاق النار عشوائياً هناك.

ليست هذه هي المذبحة الأولى من نوعها. في كل مرة تندلع الضجة نفسها ثم تهدأ تدريجياً، وتضمد الأيام الأحزان، وتطوى صفحة الذاكرة المثقلة بذكريات 338 حادثاً مماثلاً. إنه وباء العنف المزمن الذي لا يبرأ منه المجتمع الأمريكي. 

الأسلحة الشخصية وانتشارها السرطاني في هذه الدولة، قصة طويلة، ومشكلة معقدة ذات أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية متداخلة. وقبل ذلك تراث تاريخي له جذوره في الثقافة الشعبية. حيازة وحمل السلاح جزء من هوية الأمريكي الأول الذي يعتبره تجسيدا لمعاني الرجولة والاستقلالية والسيادة. ومظهرا من مظاهر قوته وحقه في الدفاع عن نفسه. 

وبسبب هذه التعقيدات والمعتقدات أصبح من الصعب بل من المستحيل فرض قيود حقيقية على حمل الأسلحة حتى وإن كان هناك 92 أمريكياً يقتلون يوميا بسببها وفقا لإحصائيات رسمية. وحتى لو كان هناك نحو 5740 طفلاً قتلوا بسببها أيضا في عامي 2008 و2009 فقط.

ووفقاً لدراسة أعدها ديفيد هيمنواي الأستاذ في جامعة هارفارد فإن عدد ضحايا الأسلحة من الأطفال في أمريكا يزيد بنحو 14 مرة على مثيله في الدول المتقدمة. بل إن عدد ضحايا الأسلحة الشخصية في أمريكا منذ 1970 يفوق عدد القتلى الأمريكيين في كل الحروب التي خاضتها بلادهم في تاريخها منذ الثورة الأمريكية.

كل هذه الأرقام المفجعة فشلت في بناء جسور تواصل بين المعارضين لحمل السلاح الداعين إلى تقييد حيازته ويتبنى قضيتهم الديمقراطيون. والمدافعين عن الحق في امتلاك السلاح ويدعمهم الجمهوريون.

ومن الطبيعي في ظل المكاسب الهائلة التي تجنيها الشركات المصنعة أن توجد جماعات مصالح تقاوم أي قيود على امتلاك الأسلحة. في مقدمة تلك الجماعات يأتي اسم الاتحاد الوطني للبندقية المعروف اختصارا باسم «إن آر إيه» وهو أقوى لوبي أو جماعة ضغط سياسية في واشنطن. وينفق بسخاء على المرشحين المؤيدين له.

يعرف العرب اسم «ايباك» باعتباره اللوبي «الإسرائيلي» اليهودي القوي في أمريكا، ولكن كثيرون لا يعرفون أن لوبي الأسلحة أقوي بكثير. وقد تتسامح «ايباك» نسبيا مع آراء تعارض بعض المواقف «الإسرائيلية»، أما لوبي الأسلحة فنسبة تسامحه مع المعارضين صفراً. والدرس الأول الذي يتعلمه أي عضو في الكونجرس هو أن اقتراح تشريعات تقيد حيازة الأسلحة هو محاولة انتحار نتيجتها محسومة تماما في الانتخابات التالية. 

عبر عن هذه الحقيقة عضو مجلس النواب الديمقراطي السابق «ستيف إسرائيل» عندما كتب في «نيويورك تايمز» بعد المذبحة الأخيرة «إن أي شيء أقل من الخضوع الكامل للوبي السلاح يعتبرونه تأييدا لمصادرة السلاح»، وهي جريمة ليس لها عقاب إلا الاغتيال المعنوي والنفي السياسي. 

إزاء هذه الحقائق لا نبالغ عندما نقول إن السياسة بلا قلب في أمريكا. وأن المصالح السياسية والتجارية أكثر قوة وتأثيراً من الاعتبارات الإنسانية. يدافعون عن حق امتلاك السلاح ولا يدافعون عن حق الأطفال والأبرياء في الحياة. يتغاضى السياسيون عن التزاماتهم الأخلاقية تجاه مواطنيهم. وفي كل مرة تقع فيها مذبحة لا يتعدى رد الفعل الرسمي بيانات الإدانة والتعازي وتنكيس الأعلام والوقوف حداداً على أرواح الضحايا.

كل ذلك قد يكون مفهوماً حتى وإن كان مرفوضاً. ولكن غير المفهوم هو موقف المواطن الأمريكي الذي يذرف الدمع على الضحايا ثم ينصرف إلى همومه اليومية، وينسى وباء انتشار السلاح الذي قد يكون هو أحد ضحاياه المقبلين. يبكي على القتلى اليوم وينتخب غداً أعضاء الكونجرس الذين يدافعون عن مصالح شركات السلاح ثم يقفون حداداً على ضحاياها.. إنها أمريكا.