طيب تيزيني

في هذا الزمن تظهر آراء تدعو إلى التحرر من الماضي جزئياً أو كلياً، كما تزعم أن الماضي انتهى عملياً مع الثورات، التي تخترق بعض بلدان العالم العربي وتضعه أمام التساؤل التالي: ألا يكفينا أن نجعل ماضينا أسطورة، نجد فيها أجوبة على أسئلتنا الكثيرة والمتكاثرة والمتعلقة بالعلوم والثقافة ومشكلات عصرنا، الذي ما فتأ يواجهنا بالاكتشافات والاختراعات، حيث نسمع بها عبر وسائل الإعلام، ومن ثم، فإننا لسنا بحاجة إلى شيء! ذلك هو الرأي الذي يتمترس وراءه ذوو الرؤية المعاصرة، الذين يعتبرون الماضي رحلة تنتهي مع الدخول في العصر الحديث! ومن ثم، فإن علينا أن نبني استراتيجياتنا وخططنا على ما يقدمه العصر الراهن المفعم بالاكتشافات والاختراعات. فأهل هذا العصر، وفق هذا المنطق، أدرى بعصرهم.

وملاحظ أن أصحاب هذا الرأي ينطلقون من أن ماضيهم يمثل خزاناً لا ينضب من الإجابات التي نتبيّنها أو نكتشفها في تراثنا، وما علينا إلا أن نتقن الفن أو العلم المناسب، حتى نستدر ما نحتاجه وما نرغب فيه في ماضينا التليد. وملاحظ أيضاً أن من يأخذون بهذا الرأي ينطلقون من «الأصالة»، التي تربأ عما لا يستجيب لخصوصيتنا وتاريخنا العريق المفعم بالحضارة التي وصلت إلى تخوم العالم واخترقته في العصر الوسيط.

لقد تراجع ذلك التيار عن مرتكزاته الهشة، وتركت المسألة للمقولات «التاريخية» التي تقول، إن الأسلاف يتركون ما فعلوه للقادمين، فيكيفون ذلك وفق عصرهم في الحقول المتعددة، ولذلك تكتسب المسألة التي نطرحها هنا، بعهدها في التاريخ، أي إعادة قراءة التاريخ العربي وفق المعطيات المتجددة حسب الزمان والمكان والأنساق الفكرية القائمة. وها هنا نجد أنفسنا أمام المدخل إلى الموقف الجديد، الذي يُقر ويعترف بموجبه بأن المسألة هذه تبدأ ببعض النظم العربية نفسها، التي ما زالت تصر على البنية السابقة لبلدانها، أي البلدان التي صارت أهدافاً للصيد من قِبل شذاذ الآفاق في العالم الطامح في الموارد والثروات الهائلة. لقد اتضح شيئاً فشيئاً أن كل ما أنجز ذو طبيعة هشة سرعان ما تُخترق، حتى نجده قد تحول إلى حالة جديدة تهز العالم، لقد اختُرقت سوريا والعراق واليمن وفلسطين. فتحولت الحرب السورية إلى بؤر جذب دولي للبلدان التي تبتغي الحصول على حصصها.

وإضافة إلى ذلك ظهر «داعش» ليعمم الحرب السورية في العالم بصيغ متعددة. فسارعت بعض الدول إلى الحصول على حصصها. وكانت روسيا في مقدمتها! وجاءت إيران حين دخلت إلى سوريا تحت شعارات من طراز: لبيك يا حسين، لبيك يا زينب! ولم يترك «داعش» أيضاً فرصته تذهب مع الريح، فدخل ودمر تدمُر وحلب، وحوّل سوريا إلى خراب وجوع ومآسٍ: لقد غادر سوريا سبعة ملايين من كل الفئات الشعبية، وخصوصاً من الشباب، إلى بلدان العالم، طالبين السلامة والكرامة والعمل والدراسة. إنها مأساة ما بعدها مأساة.

لقد تُرك الشعب السوري أمام الاحتمالات العديدة من الموت، واكتملت اللوحة الفاجعة عبر زرع الطائفية بين السوريين. فبدأت عملية إعادة بناء الطائفية عبر عملية تهجير عرقي وطائفي وديني، فأحدثت شروخاً فظيعة في حياة السوريين. وإضافة إلى ذلك، وبالتساوي معه، انتشر الجوع والأسى وتضاعفت أعداد الأرامل واليتامى، مع الهروب إلى بعض بلدان الجوار للاحتماء بها، ليجد الهاربون أنفسهم هناك تحت قبضة قوانين وأعراف اصطُنعت لإذلال السوريين وإدخالهم في مصائب تقطع عليهم الطريق.

وتمزقت عرى الأخوة بين الطوائف. فمن هو علوي الطائفة، أريد أن يظهر أمام الآخرين غريباً، وكذلك السني والمسيحي، وأصبحت السجون مأوى لكثير من الطوائف المتعددة، وهذا يذكرني بمشهد رأيته في ألمانيا، وهو تلك الكلمات التي قرأتها على باب أحد السجون، وهي: الدين للجميع، وكل لنفسه. ولن أضيف على ذلك إلا القول، وهو أن الأسلاف، أسلافنا لم يتركوا لنا وسائل إعادة البلد إلى وهجه ووحدته وقدرته على الخروج من المأساة، ولكنهم كانوا يؤكدون على سوريا الموحدة أرضاً وشعباً، بكل أطيافها وطوائفها وأديانها.