غسان الإمام

 صفع المعلم أحمد رامي تلميذه النجيب مصطفى أمين. فانتقم الصحافي الكبير من الشاعر الغنائي الكبير. تزوج مصطفى سراً المرأة التي أحبها رامي. ولم يستطع أن يتزوجها. وتعمدت أم كلثوم أن تلهب غيرته. لكي يكتب لها شعراً يلهب عواطف الملايين في العالم العربي.

ماتت أم كلثوم منذ 42 سنة (1975). ولم تجرؤ صحيفة أن تكشف سر إصابتها بسرطان الحنجرة. فقد بقيت أم كلثوم مؤسسة غنائية رابضة، كأبي الهول فوق الأهرامات. وفوق النصر والهزيمة العسكرية. وصامدة أمام المتزمتين من رجال الدين الذين حاولوا تحميلها مسؤولية الهزيمة والإباحية. فغنت «الله محبة». فكسبت الرأي العام. وألزمتهم الصمت.
لكن لماذا تزوجت أم كلثوم الصحافي مصطفى أمين، وهي في قمة تألقها الفني؟ ربما كانت بحاجة إلى رضا المؤسسة الملكية التي كان مصطفى مرتبطاً بها وبباشواتها الذين تعاقبوا على رئاسة ديوانها، بمن فيهم عمه. وقد أثارت سرية الزواج جدلاً عريضاً، إلى أن حسمه عدد من الباحثين، على رأسهم الناقد الأدبي والفني الكبير رجاء النقاش الذي نشر تأكيداً لحدوث الزواج في صحيفة «الأهرام» (6 - 2 - 2000).
كتب مصطفى أمين قصة «فاطمة» لأم كلثوم التي تحولت إلى فيلم لها (1947). ثم حدث الانفصال بينهما، بعد تراجع نفوذ مصطفى الذي كان الصحافي الأول في الأربعينات. وكان الصحافي الوحيد الذي يستطيع أن ينشر في صحيفته الأسبوعية (أخبار اليوم) صوراً تذكارية لأم كلثوم، وملامح الرعب تلعب بقسمات وجهها المفزعة. وبجانبها الجنرال عمر فتحي باشا الحارس الشخصي للملك فاروق، وهو يحاول أن يهدئ من روعها، خلال حفل الألعاب النارية.
غنت أم كلثوم «طقاطيق» غنائية لقدامى الملحنين المصريين الشهيرين. ثم أدت أغاني لكبار الملحنين المجددين، كزكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ورياض السنباطي. وفي الستينات، تدخل جمال عبد الناصر شخصياً، ليجمعها مع محمد عبد الوهاب. فأطال الموسيقار الكبير عمرها الفني عشر سنين أخرى. لكن صوتها كان قد فقد رنينه الذهبي. فاختار لها النوابغ الجدد، من أمثال محمد الموجي، وكمال الطويل، والكفيف سيد مكاوي، وبليغ حمدي، ألحاناً تتناسب مع طبقتها الصوتية المعمّرة.
كانت أم كلثوم ناجحة وسعيدة الحظ في حياتها الطويلة. فقد اختفت، بصورة غامضة، المطربات الشهيرات اللاتي حاولن منافستها، بمن فيهن أسمهان (أمال الأطرش) التي غرقت في ترعة نيلية (1944).
من منّا لا تدمع عيناه حنيناً إلى الماضي، وهو يسمع أسمهان صاحبة الصوت «الكريستالي» كما وصفه لي عبد الوهاب، وهي تصدح بـ«رجعت لك»، محاولة إرضاء زوجها وابن عمها «الأمير» حسن الأطرش. حاول زوجها الاحتفاظ بها في عاصمته القروية «السويداء»، فامتنعت. وعادت إلى القاهرة عاصمة الفن والغناء التي منحتها الشهرة في عمرها القصير (34 سنة). وتوفيت وهي على عتبة التحول إلى «نجمة» السينما المصرية في فيلمها «غرام وانتقام».
أما شقيقها الفنان الكبير فريد الأطرش الذي توفي بمرض القلب عن 59 عاماً (1974)، فقد كان بمثابة فرانك سيناترا، في المسيرة الكلاسيكية الغنائية العربية. ورفضُ أم كلثوم لفريد الأطرش كملحن لها، لا يحط من قدره وقيمة فنه. فما زال فريد مسموعاً في المشرق والمغرب، بعد مرور 43 عاماً على وفاته. ولست مع الناقد الفني والوزير السابق السوري سعد الله آغا القلعة، في أن الأطرش كان فناناً سورياً. فريد وشقيقته أسمهان ينتميان إلى المدرسة الغنائية المصرية أداءً، ولحناً، وكلمات.
عندما انتقل عبد الناصر بمصر إلى الكلاسيكية الماركسية في الستينات، غادر فريد الأطرش القاهرة إلى لبنان، مع عدد كبير من الفنانين المصريين. غنى الأطرش للشاعر «الأخطل الصغير» (بشارة الخوري) بالفن الجبلي اللبناني. وظل حنينه مصرياً. فقد أوصى بدفنه إلى جانب شقيقته أسمهان. وكان تشييعه حافلاً، وفاءً من المصريين وحبهم له.
وعلى الرغم من ضعف صوت فريد، بسبب حياته الصاخبة، فأغانيه العاطفية في الثلاثينات لا تقل روعة في تقنيتها وحلاوة أدائها عن أغاني عبد الوهاب في تلك المرحلة الرومانسية. ولا ننسى أن الأطرش كان أعظم ضارب على العود. ولم ينتزع ضاربو العود العراقيون هذا اللقب منه، كما يتوهمون.
كان عبد الوهاب أكثر ذكاء وثقافة من الأطرش. وإذا كان صوته فقد باكراً فصاحة الأداء وحلاوته في «الطقاطيق» التي جدد فيها أداء مطربي القرون المصرية الماضية، فقد كانت أغانيه الكلاسيكية الطويلة الكنز الفني الثمين الذي تركه لنا. ولا يعيبه تعريبه لسيمفونية بيتهوفن. فقد كانت «الجندول» أحلى كلاسيكياته رقة وعاطفية.
خضعت الكلاسيكية الفنية العربية لعصرها السياسي. فكانت «وفدية» مع عبد الوهاب الذي ما لبث أن ساير عبد الناصر. وترقى إلى رتبة «لواء» في عهد السادات. أما عبد الحليم فقد كان وفياً متحمساً لجيله الناصري. وما زال «العندليب» الغائب يثير الحنين لدى الأجيال العربية، بعد وفاته وهو في السابعة والأربعين من العمر (1977). وطوت وفاته المبكرة بالبلهارسيا، غموض حكاية زواجه السري بالفنانة سعاد حسني.
اتسع قلب القاهرة لأكثر من هؤلاء الخالدين. ما زالت وردة، ونجاة، وفايزة، وسعاد محمد، وميادة... يثرن الحنين لدينا إلى كلاسيكيات الستينات والثمانينات. نجاة اليوم في الخامسة والثمانين. نعم، توقفت عن الغناء منذ سنين، لكن أناقة أغانيها تغفر للشاعر كامل الشناوي حبه لها الذي لم تغفره هي له.
وأين شادية؟ أعوامها الـ88 لا تنسينا «لوليتا» الأغنية الخفيفة التي ورثت مجد صباح. وليلى مراد التي تخال عندما تسمعها، وكأنها تغني «دويتو» مع ليلى أخرى. اللبنانية فيروز هي أيضاً في الثالثة والثمانين. وما زالت قادرة على نشر «ألبوم» جديد لها. كتبت هنا في «الشرق الأوسط» عن سفيرة العرب إلى النجوم. هذه الجنّية الساحرة لم تنافسها مغنية، في قدرتها على تطويع المذياع (المايكروفون) لطبقات صوتها الذي كان يوماً أوبرالياً.
ما زالت فيروز تثير الحنين لدى الملايين الذين عاشوا عمرهم مع صوتها. ومع نجلها زياد الذي نقلها غنائياً، من فتاة عاشقة خجولة في الضيعة، إلى فتاة بجرأة فتيات بيروت. ولا يسيء إليها عدم إجادتها فن العلاقات العامة مع الصحافة، والإعلام، والناس.
تسألني، يا قارئي العزيز، ما تفسير هذا الحنين الجارف إلى الكلاسيكية الغنائية؟ أجيب بأنه هذا الهرب من بشاعة الحاضر. والقلق على المستقبل والمصير المجهول لأمة تعاني من معاول الهدم في نسيجها الوطني والقومي.
نعم، عودُ الأغنية الخليجية. وجرأة هاني شاكر. وأصالة. وإليسا. ونانسي. وجورج وسوف (محمد عبد المطلب الجديد)... كلها تذكّرنا بأن هناك غناءً جديداً له شعبيته، على الرغم من الهبوط في مستوى ذائقة الملايين الشعرية والغنائية، إلى ما دون العامية، لتغدو ثرثرة في صالة، أو حانة، أو ملهى.