بكر عويضة 

ما إن أنهيت قراءة تقرير بعدد «الأوبزيرفر» الأحد الماضي، حتى تردد صدى أبي العلاء المعري على مسمعي: «هذا ما جناه أبي عليَّ... وما جنيت على أحد». من الرقة، العاصمة المزعومة لتنظيم داعش، كتب مارتن تشولوف عن مآسي أطفال وُلدوا لآباء ينتمون لتوّحش من زعموا أنهم «مجاهدون»، ثم إما أنهم قُتِلوا، أو هم فارون بعدما تقهقروا، إذ توالت هزائمهم في العراق، وباتوا يواجهون الفناء التام فوق ما بقي لهم من جيوب بسوريا.

ليس من الواضح، على وجه التحديد، ماذا قصد أبو العلاء المعري بما «جناه» أبوه عليه، ولماذا أراد وضع صيحة الفزع تلك على قبره. إنما واضح لكل ذي بصر وبصيرة مدى إجرام من انتسبوا لأحد أبشع صوّر تنظيمات «الجهاد»، ثم نسبوا أنفسهم، وسوء أفعالهم، ليس فقط للإسلام، ديناً ومنهاجاً، بل وللمسلمين، أمة وتاريخاً. أن تنشأ عن الحروب مآسي ترمّل أمهات ويتم أطفال، ليس بالأمر الجديد. ما من حرب - مُذ عرف الإنسان كيف يُميت إنسانيته فيبسط يده بقتل إنسان آخر - إلا شرّعت الأبواب للموت، والنوافذ. النتيجة، ثكالى وأيتام وأرامل. لكن همجية «داعش» غير مسبوقة. مثلاً، أنْ يُحرق حياً الطيار الأردني معاذ الكساسبة، باسم خالق البشر جميعاً، ليس فقط يحمل وزر حرق قلوب أبويه وأحبائه، بل فيه جرمٌ أقل ما يقال في وصفه هو أنه اجتراء فظيع على ربِّ الناس أجمعين، الذي هو وحده صاحب القرار، لمن هي النار ومن هم وهن أهل الفردوس الأعلى. قد تكون ملاحظتي التالية متأخرة، لكن ذلك لا يمنع قولها. الواقع أن ما جرى مِن تسابق بين وسائل إعلام عدة على تعميم فيديو ذلك الفعل الشنيع عبر فضاء الإنترنت، لم يكن مفهوماً آنذاك (3-1-2015)، وليس مبرراً، تحت أي تذرعٍ مِهني، استمرار توفره، بل في ذلك نوع من الإسهام في ترويج جريمة، والأسوأ أنه قد يُعرض، ضمن مناهج تطرف داعشي يقلب الحقائق ويزين سوء الأعمال، أمام صبية وأطفال، إما من منطلق الترغيب، أو بدافع الترهيب.

تلك بشاعة لم يهضمها أي عقل حين وقوعها، بيد أن نسيانها لم يك من المستحيل. تماماً كما حصل مع معظم سابقاتها. حقاً، ما أسهل النسيان، وما أسرع أن تجب وقائع يومٍ ما فظائع أمسٍ قريب، دع عنك البعيد، فهل سوف تستعصي مآسي أيتام مجرمي «داعش» على النسيان هي أيضاً؟ الأرجح كلا. إنما، أليس ممكناً عمل شيء ما ينقذ أولئك الأطفال مما عليهم جناه آباؤهم؟ بلى، بوسع عواصم عربية عدة - ودمشق هي الأَوْلى - أن تفتح أبواب رحمة توفر الملاذ الآمن لأيتامٍ ما جنى أي منهم ذنبَ أنه وُلِد لأبٍ إما ضُلل، أو هو ضال من الأصل. لست أدري ما الذي يمنع إنقاذ أولئك الأطفال من احتمال التشرد، أو الضياع، أو حتى احتمال الأخذ بمنهج ضلال التطرف في مستقبل الأيام، مهما بدا الآن أنه ضئيل.

في السياق ذاته، أما آن وقت تصدي عواصم الغرب بجدية أكثر لوسائل نشر التحريض على الإرهاب باسم دين الإسلام، أو أي منهاج متطرف، أياً كان الشعار أو الراية؟ يثير التساؤل تحقيق إخباري صادم أجراه مارتن بشير، مراسل الشؤون الدينية لتلفزيون «بي بي سي» الأسبوع الماضي، وأثبت بالدليل وجود مطبوعات باللغة الأردية توزع مجاناً في بعض مساجد لندن، وتحرض صراحة على قتل غير المسلم. أليس في هكذا استخفاف بحياة البشر، وأمن المجتمع، ما يوجب ردع كل ما يوصف بحرية التعبير، عندما يُساء استخدامها؟
نعم، إذا أراد العالم كله استئصال سرطان الإرهاب قبل أن يستفحل أكثر، فلا مفر من مواجهة جادة مع كل أسبابه، وفي مقدمها وقف استدراج المراهقين إلى شِباك مناهج التطرف. قبل «الأوبزيرفر»، إحدى أعرق صحف الأحد البريطانية، أشارت «الشرق الأوسط» إلى مآسي أطفال طالهم ذلك السرطان في مقال كتبته هدى الحسيني ونُشر بتاريخ 17-3-2016 تحت عنوان: «هذا هو (داعش) وهؤلاء هم أطفاله». تضمن ذلك المقال من صوّر التوحش في استغلال الطفولة وتشويهها ما يُفزع كل ذي قلب وضمير. تأخرت المواجهة؟ نعم. لكن الفرصة لم تفت بعد. ليس المطلوب فقط إنقاذ أيتام مجرمي «داعش»، بل أيضاً الحيلولة دون إنجاب المزيد من أمثالهم، حيثما كان ذلك مُحتملاً.