صالح القلاب

غير مستغرب أن يتفق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، ومستشار الشؤون الدولية لمرشد الثورة الإيرانية علي أكبر ولايتي، على أن إسرائيل وراء خطوة «الاستفتاء» هذه، التي أقدم عليها الأكراد، أو الكرد، بقرار من الرئيس مسعود بارزاني؛ فتركيا وإيران أكبر المتضررين من هذه الخطوة؛ وذلك على اعتبار أنَّ الثقل الكردي في هذه المنطقة كلها هو في هاتين الدولتين، وحيث يقال إن عدد هؤلاء في الدولة الأولى يتجاوز الستة عشر مليوناً، وفي الثانية يلامس الاثني عشر مليوناً، وهذا إن يعني فلا يعني أكثر من أن عدوى انفصال إقليم كردستان العراقية عن العراق وإقامة كيان مستقل فيه ستنتقل فوراً، وبالتأكيد، إلى هاتين الدولتين اللتين تعانيان فعلاً من قنبلة «فسيفساء» إثْنية – قومية، وأيضاً طائفية ومذهبية ضاغطة قابلة للانفجار في أي لحظة! .

ثم، وبالإضافة إلى الثقل الرئيسي الكردي في هاتين الدولتين اللتين لم تكتفيا بما ترتب على اتفاقيات سايكس – بيكو الشهيرة، بل إنهما انتهزتا ظروفاً مستجدة ملائمة وتمددتا: الأولى أي إيران، في اتجاه «الأحواز» العراقية، والثانية في اتجاه لواء الإسكندرون السوري، وكل هذا والمعروف أن هناك أقليات ضاغطة إنْ في الدولة التركية وإن في الدولة الإيرانية كالبلوش والآذاريين والهزارة واللاز والبكداشيين والعلويين والأرمن، وأيضاً كالشيشان والشركس والداغستانيين.

ولذلك؛ وخوفاً من انتقال العدوى الاستقلالية – الانفصالية إلى كل هذه المجموعات الكيانية إن استطاع أكراد العراق تثبيت نتائج «الاستفتاء» الذي أجروه وبالقوة في كردستان العراقية فقد بادر الإيرانيون والأتراك، بالإضافة إلى إعلان حالة الاستنفار العسكري القصوى، وإجراء مناورات عسكرية على حدود هذا الإقليم، إلى إلصاق تهمة الخيانة بالقيادة الكردية، والادعاء بأن إسرائيل هي التي وراء هذه الخطوة التي إن هي نجحت فإن الإسرائيليين الذين بقوا يسعون ومنذ قيام دولتهم في عام 1948 إلى شرذمة وتفتيت دول هذه المنطقة العربية والإسلامية، سينقلون عدواها إلى تركيا وإيران، وحيث إن الكرد في هاتين الدولتين قد لجأوا مبكراً إلى حمل السلاح، أي حزب العمال الكردستاني – التركي الـPKK في الدولة الأولى، وحزب الحياة الحرة الكردستاني في الدولة الثانية.
وحقيقة أن الأكراد كلهم، إنْ في تركيا وإنْ في إيران وإنْ في العراق، وأيضاً إنْ في سوريا، بقوا يتذوقون حلاوة قيام دولة «مهاباد» الكردية المعروفة في كردستان الإيرانية في عام 1946، تلك الدولة التي لم تعش إلا لشهور قليلة فقط، وحيث اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على وأدها مبكراً، وللحجة الحالية نفسها التي هي الخوف من انتقال عدوى هذه الدولة إلى الدول المجاورة؛ مما سيؤدي إلى حروب طاحنة ومدمرة (!!) وإلى حالة عدم استقرار في الشرق الأوسط كله، وفي هذه المنطقة، منطقة النفط، بأسرها.
وبالطبع، فإن إسرائيل، التي دأبت ومنذ إنشائها على السعي لتمزيق هذه المنطقة «الاستراتيجية» وتفتيتها وإقامة ما يمكن اعتباره «كومنولث»، طائفياً ومذهبياً وإثْنيّاً، لأقلياتها تكون لها فيه مكانة بريطانيا العظمى في «الكومنولث» البريطاني، قد بادرت حتى قبل إجراء هذا «الاستفتاء» المتسرع، الذي أجراه الرئيس مسعود بارزاني في كردستان العراقية إلى الإيحاء وبالأفعال والأقوال بأنها ليست تؤيده وفقط، بل إنها وراء التخطيط له وتنفيذه، وحقيقة أن هذا غير صحيح على الإطلاق ويمكن الجزم بهذا وبصورة قاطعة.
والواضح، بل المؤكد، أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد أطلق ذلك التصريح اللاحق المتأخر للتنصل من تصريحه السابق تحت ضغط الولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً تحت إلحاح القيادة الكردية، حيث أكد أنه «لا يوجد أي دور لإسرائيل في الاستفتاء الذي شهده إقليم كردستان العراق»، وحيث قال أيضاً إن تصريحاته السابقة بخصوص تأييد هذا الاستفتاء قد جاءت من قبيل التضامن والتعاطف مع الشعب الكردي في رغبته الاستقلالية.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن الإسرائيليين قد لعبوا لعبة قذرة كهذه اللعبة الأخيرة في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما استدرجوا الملا مصطفى بارزاني، والد مسعود بارزاني، للقيام بزيارة علنية لإسرائيل مقابل وعد كاذب بأنهم سيساندونه لإسقاط اتفاقية الجزائر الشهيرة التي وقعت في السادس من مارس (آذار) عام 1975 بين نائب الرئيس العراقي في ذلك الحين صدام حسين وشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي بإشراف الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، لكنهم تركوه يواجه كل المستجدات اللاحقة خلال وبعد زيارة طويلة كان قام بها إلى الولايات المتحدة كانت في حقيقة الأمر بمثابة لجوء سياسي، وإن بصورة مؤقتة.
وهكذا، فإن المؤكد أن القيادة الكردية ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني تعرف أن لا ثقة بأي وعود إسرائيلية، وأن إسرائيل التي لا يهمها الأكراد وقضاياهم بقدر ما يهمها إضعاف العراق وشرذمة وتمزيق دول هذه المنطقة، وأنها، أي إسرائيل، كما تخلت عن والده فإنها ستتخلى عنه إن هو وثق بمساعيها ووعودها، والمعروف أنَّ الإسرائيليين كانوا الداعم الأول لانفصال جنوب السودان عن شماله، لكنهم ما لبثوا أن تخلوا عن هذه الدويلة الانفصالية وتركوها لتواجه هذا المصير البائس الذي تواجهه الآن.
إنه لا جدال إطلاقاً في أنَّ من حق الأكراد أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن تكون لهم دولتهم أو دولهم المستقلة مثلهم مثل أشقائهم العرب والأتراك والإيرانيين، لكن وفي كل الأحوال فإن أيضاً عليهم أن يختاروا اللحظة المناسبة فعلاً، وأن يتجنبوا «القفزات الانتحارية»، وأن لا يصدقوا ولا يثقوا بكل ما يسمعونه والدليل أولاً هو المصير الذي انتهت إليه جمهورية مهاباد الشهيرة، وثانياً هو أخطر الاستحقاقات التي واجهتها الحركة التحررية الكردية على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، وهو أيضاً هذه النهاية التي انتهت إليها خطوة «الاستفتاء» الأخيرة التي ثبت أنها كانت ارتجالية وعشوائية وغير مدروسة الدراسة الكافية التي تقتضيها ظروف العراق وظروف هذه المنطقة الملتهبة.
ثم، وإن المفترض أنه كان على القيادة الكردية، قبل أن تلجأ إلى هذه الخطوة التي إنْ هي ليست ارتجالية، فإنها بالتأكيد متسرعة والتي قد تصبح مكلفة جداً، أولاً ألاّ تثق بأي وعود إسرائيلية سواء مباشرة أو غير مباشرة، وثانياً أن تتأكد مسبقاً من رأي الأميركيين والروس وباقي الدول الكبرى الفاعلة، وثالثاً وما دام أنها تعرف الأتراك والإيرانيين معرفة أكيدة فقد كان عليها أن تدرك أن خطوتها هذه ستُواجَهُ وعلى الفور بعمل عسكري تركي وإيراني؛ لأنها تعتبر بالنسبة لهاتين الدولتين القنبلة التي ستفجر وحدتهما السكانية والجغرافية.
لقد كان على القيادة الكردية قبل هذه القفزة التي كانت قفزة نحو المجهول أن تأخذ بعين الاعتبار أن محاولة الجيش الجمهوري في آيرلندا الشمالية قد فشلت، وأن القبارصة (المسلمين) الشماليين يحاولون وبعد كل هذه السنوات الطويلة العودة إلى قبرص الشمالية «الأرثوذكسية»، وأن الجنوب السوداني يبكي الآن ندماً لأنه ابتعد عن الشمال السوداني، وأن غزة ها هي قد هرولت ركضاً للعودة إلى السلطة الوطنية والضفة الغربية، وأن انفصال كاتالونيا عن إسبانيا قد يفجر حرباً جديدة في القارة الأوروبية، إن هي تفجرت بالفعل فإنها ستكون أكثر مأساوية وأهوالاً من الحرب العالمية الثانية.