سمير عطا الله 

 خريف 1966، تصدر في بيروت مجلة «حوار» الفصلية وفيها رواية عنوانها «موسم الهجرة إلى الشمال»، لكاتب سوداني يدعى الطيب صالح، ويقيم في لندن. بعد قليل، يكتب رئيس تحرير المجلة، الشاعر توفيق صايغ، رسالة إلى صديقه الطيب يبلغه فيها أن عمله أثار إعجاباً لا مثيل له في أوساط بيروت الأدبية.

هذه الرسالة، وغيرها، تحكي الأيام الأولى في الشهرة لأشهر اسم سوداني في الأدب العالمي، جمعها وشرح لها الناقد محمود شريح (دار نلسون). سوف تلقى «موسم الهجرة إلى الشمال» استقبالاً غير مألوف من قبل. فالأدب العربي الحديث لم يكن قد أصبح مادة للترجمة والنقد في عواصم العالم، كما حدث مع الموجة التي أعقبت فوز نجيب محفوظ بجائزة «نوبل» حتى الآن.
لم يكن الطيب صالح قد فكر يوماً في أن يصبح كاتباً أو روائياً، لكن بعد عملية جراحية صعبة في بيروت، ذهب إلى إحدى ضواحي «كان» يمضي فترة من النقاهة. وهناك، شرع في كتابة «عرس الزين» و«موسم الهجرة». وأدرك الطيب، أو أدرك نقّاده، أنه يمثل خليطاً متعاكساً من ريف النيل الموغل في البدايات، ومن اكتشاف الغرب والحداثة: «عندما كبرت عملت في الحقول مع شعبي. وكان النيل نقطة التقائنا المركزية».
كان عالم النيل مليئاً بالسحر والألوان والعادات والحذر والبداوة. ولم يكن على رسام مثل الطيب سوى أن يستعيد المشاهد، ويتذكر الحوارات، ويفرش تعابيرها وروائح المسك وبقايا الأساطير المحفوظة في طمي الفيضانات وعطر الفصول.
وقد لعب توفيق صايغ، وهو أستاذ الآداب في جامعة بيروت الأميركية، دوراً واضحاً في تحريض الطيب على تفجير موهبته الكامنة، وسرد سحريات الذاكرة. وأطل الطيب ومعه من البداية أسلوبه ومداده الخاص. وكان معه عفوية الغابة وتلقائيات أهل النهر وسكان الضفاف، لكن توفيق صايغ، المشبع بضوابط المدن، درّبه على الحذف والضبط. ويبدو من النصف المحذوف، أن الطيب أرسل النثر حراً أكثر من الشعر، وترك نيل القرى يفيض كالسيول.
«موسم الهجرة إلى الشمال» كان عنواناً واحداً من مجموعة أعمال زاهية زاكية باهية، تركها ساحر النيل وشاعر ألوان الغاب، الذي أمضى معظم عمره على ضفاف «التيمز» في لندن. وكانت شخصيته جزءاً من صياغاته العفوية، إذا حل في مكان، لا يعود في المكان مكان لغير حضوره وأنسه وثقافته ومعارفه وذاكرته. وقبل وبعد كل شيء، لطيبته؛ كان مجسم اسمه.