محمد الساعد

مساء يوم الخميس 12 أكتوبر كان المرشح القطري حمد الكواري قد انتهى للتو من الفوز بالتصفيات قبل النهائية في السباق نحو منصب الأمين العام لليونسكو، الكواري كان منتشيا جدا وهو يخرج من القاعة الكبرى وقد حصد الأصوات «الحرام» ضد المرشحة المصرية، كان يرى أن الطريق أمام الكرسي الفخم قد اقترب كثيرا.

كيف لا وهذا المنصب الرفيع ستشغله دولة صغيرة نائية لا يعرفها معظم سكان المعمورة، وهي أقرب ما تكون إلى حي عشوائي جنوب العاصمة النيجيرية، كما أن الكواري ليس إلا موظفا صغيرا رماه القدر في طرقات اليونسكو، ولم يكتب حرفا واحدا، وربما لم يقرأ رواية واحدة، وبالتأكيد لم ولن يحسب على مثقفي العالم.

اقترب الكواري من سكرتيره طالبا منه تجهيز طاولة العشاء للمدعوين الذين صوتوا أو الذين وعدوا بالتصويت في الجولة الحاسمة مساء الجمعة.

وصل الجمع إلى مطعم «لي ستيلا» وهو واحد من أفخم المطاعم وأكثرها كلفة في العاصمة الفرنسية باريس، يقع المطعم بإطلالته المميزة في شارع الروائي الشهير «فيكتور هوغو»، حتى اختيار المطعم كان مقصودا من شركة العلاقات العامة التي كلفت الخزينة القطرية لوحدها أكثر من 50 مليون يورو، إضافة إلى 250 مليون يورو كلفة الرشاوى التي دفعها نظام الدوحة للحصول على أصوات غير مستحقة.

الكواري مارس خلال حفل العشاء دور المثقف الدولي الذي سيكون بعد ساعات فقط عراب الثقافة والفنون في العالم، بالطبع لم يكن الكواري سوى ممثل بائس على خشبة مسرح في مساء شتوي بارد.

قال للمدعوين وهو يضحك بسذاجة لم آت إلى باريس «بيدين فارغتين»، كانت إشارة واضحة إلى أن يديه مليئتان بالأموال، وأنه جاهز لتلبية طلبات المرتشين الذين سيصوتون لصالحه.

يا لبؤس هذا العالم الذي كاد يستيقظ صباح السبت، ليجد أن الكواري يجلس على كرسي الأمين العام لليونسكو، المنظمة الأهم في العالم بعد الأمم المتحدة، كيف يمكن للعالم أن يقبل أن دولة لم يمض على تأسيسها 50 عاما، ولا يوجد لديها شاعر واحد ولا روائي ولا مسرحي ولا رسام ولا نحات يمكن أن يشار إليه بالبنان، أن تكون سيدة الثقافة والمؤتمنة عليها.

دولة لا يوجد على أرضها إلا سوق صغير بني قبل خمسة أعوام على آثار مقهى قديم للصيادين على خور الدوحة، كان يسمى قهوة واقف، ليتحول بين عشية وضحاها إلى رمز ثقافي «مزور» مصنوع من الجرانيت والسيراميك، تغني فيه نانسي عجرم، وتباع في أزقته ألعاب صينية رخيصة.

هذا المقهى أو السوق سمه ما شئت أراد له أصحاب أموال الغاز من محدثي النعمة أن يقف أمام مصر وقاهرة المعز، ببذخ تماثيلها وحضارتها الممتدة في عمق التاريخ لسبعة آلاف عام، بتوت عنخ آمون والأهرام وأبو الهول، بنجيب محفوظ والعقاد والمنفلوطي والرافعي، بأحمد شوقي وإبراهيم ناجي، بأم كلثوم والموجي وفريد الأطرش وأسمهان وعبدالحليم، بعادل إمام وفؤاد المهندس وسعيد صالح ورشدي أباظة وماري منيب وفاتن حمامة، بمسرح جورج أبيض والريحاني ودار الأوبرا، بمصطفى وعلي أمين وأنيس منصور ومكتبة مدبولي ونهر النيل العظيم.

بالتأكيد مصر ليس لديها الأموال لكي ترشي المندوبين في اليونسكو، ولذلك كان خروجها حقيقة واضحة خلال الجولات الأولى؛ لأن هناك من لوث صناديق الاقتراع كما لوث الصناديق في كأس العالم.

إلا أن خروج فرنسا كان الأصعب في حفل العشاء الكبير، فالفرنسيون لم ولن يقبلوا أن يهزمهم سوق واقف وهم بلد النور والحضارة الإنسانية.

هل يمكن للعالم أن يتناسى لوحة الموناليزا وبرج إيفل ومتحف اللوفر ومقر الجمعية الوطنية الفرنسية وقوس النصر وقصر أوبرا غارنيه والإليزيه، باريس كلها تتنفس الفنون والموسيقى والمنحوتات والتماثيل، المسرحيات والسمفونيات العالمية تخرج من الطرقات والمباني كالزهور بلا موعد، هل كان العالم المتحضر سينحاز لأموال الغاز الحرام، كان ذلك ضرباً من الجنون لو حصل.

مساء الجمعة كان مختلفا عن مساء العشاء الأخير، لقد هزم المثقفون في كل بلاد الدنيا أموال «الغاز» التي أتت محملة في الأكياس لتلوث اليونسكو كما لوثت الرياضة والسياسة.