وليد شقير

يغرق المجلس النيابي اللبناني في نقاشات تبدو عقيمة وعصية على الفهم عند عامة اللبنانيين الذين لم يعودوا يهتمون بالتدقيق في مدى صحة هذه أو تلك من الاتهامات في المداخلات النيابية، التي تنقلها محطات التلفزة مباشرة على الهواء.

فماذا يفيد المواطن العادي النظر في دستورية هذه الخطوة أو تلك، وفي معنى إلزامية «قطع الحساب» لموازنة العام الذي مضى، وفي معنى تعليق هذه المادة الدستورية أو تلك عند إقرار موازنة العام اللاحق، إذا كان همه الأساس هو تأمين قوته اليومي، وضمان طبابة أولاده، وإيجاد عمل له أو لابنه عبر المحسوبية على أحد نواب طائفته، وسط جيش العاطلين من العمل... أو بالسفر؟

أُدخل اللبنانيون في حلقة جهنمية لا نهاية لها بسبب إفقار البلد نتيجة الأزمات المتلاحقة التي غرق فيها في العقود الماضية، والحروب العبثية التي أُقحم فيها وحوّلته ساحة من ساحات الإقليم، وبفعل نهب أموال الدولة وتهشيم الاقتصاد لحساب شعارات كبرى زائفة.

مناقشات الموازنة في البرلمان اللبناني في الأيام القليلة الماضية نموذج لذلك التردّي السياسي، على رغم الاحتفالية الرسمية بالاتفاق على إصدار موازنة لعام 2017، بعد 12 سنة على عدم إقرار أي موازنة.

وإذا شاء المرء الخروج من إطار النقاشات التقنية المملة التي اخترقت قبة البرلمان، فإن المأزق الذي تسبح فيه الطبقة السياسية يتخطى السجال القانوني الذي شهدناه على دستورية إقرار الموازنة من دون «قطع الحساب» الذي يوجب الدستور إنجازه قبل إقرارها.

للمعضلة رواية يتجنب خطباء البرلمان التطرق إليها حتى لا يخدش أي منهم التسوية السياسية، التي أدت الى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتشكيل الحكومة الائتلافية برئاسة الرئيس سعد الحريري. 

فلبنان بقي بلا موازنة منذ عام 2006 لأن فريقاً من اللبنانيين، في طليعته «حزب الله» وحلفاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد، رفض الاعتراف بشرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي قامت بين عامي 2005 و2009، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وطلب الحكومة قيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بجلب القتلة إلى العدالة. 

استقال الوزراء الشيعة من الحكومة في حينها، ومعهم الوزير المسيحي المحسوب على العهد الرئاسي اللصيق بدمشق (وزير الدفاع الحالي يعقوب الصراف)، لتبرير اعتبار الحكومة «غير ميثاقية»، وبالتالي «غير شرعية»، لتجريدها من حقها في مطالبة الأمم المتحدة بإنشاء المحكمة. لكن الأمر لم يفلح، لأن الحكومة استمرت باعتبارها دستورية بالعدد الكافي من الوزراء الذين بقوا فيها. 
وأُقفل البرلمان نتيجة تلك الأزمة، ورفض رئيسه تسلم الكثير من مشاريع القوانين التي أرسلتها الحكومة بحجة عدم الشرعية التي اخترعها ذلك الفريق، على رغم أنها كانت ترسل ما يسمى بـ «قطع الحساب» إلى الجهة المعنية بالتدقيق فيه. السبب الفعلي كان أن تسلم الموازنات منها وإقرارها يعني اعترافاً بشرعيتها، وبالمبالغ التي كانت تصرفها كمساهمة من لبنان في مصاريف المحكمة الدولية، ما يعني اعترافاً بشرعية المحكمة التي اعتبرها «حزب الله» ونظام دمشق، «غير موجودة». 

شمل ذلك رفض البرلمان تشريع إنفاق بقيمة 11 بليون دولار (وقيوده واضحة) طوال تلك السنوات التي ارتفعت خلالها تكاليف تشغيل أجهزة الدولة وأعباء الحرب الإسرائيلية عام 2006. فتشريع صرف هذا المبلغ مقدمة لتشريع الموازنات التي تدخل أجزاؤه فيها، وهو أمر لا يتلاءم مع نية اعتبار الحكومة التي أنفقته «غير شرعية». 

واستمر الأمر نفسه حين تبوأ سعد الحريري رئاسة الحكومة بين 2009 و2010. أما «قطع الحساب» الذي كانت الحكومات تحوّله، فكان يتم التلكؤ في إنجازه لتبرير عدم إقرار الموازنة، للسبب السياسي نفسه: تجنّب الاعتراف بشرعية ما أنفقته الحكومة، وبالتالي التسليم بشرعية المحكمة. لكن قطع الحساب هذا تراكم على مرّ السنوات، بحيث بات الانتهاء منه متعذراً في وقت قريب.

فريق 8 آذار، الذي أوقع لبنان وماليته العامة في شرنقة من التعقيدات القانونية والدستورية الملتبسة، ما أدى إلى فلتان الحبل على غاربه طوال سنوات، كان شريكه الأساسي «التيار الوطني الحر» ومؤسسه الرئيس الحالي ميشال عون. لكن الرئيس اللبناني وحلفاءه يحتاجون إلى «إنجاز» إقرار الموازنة، ويريد لعهده أن يوصم بأنه أعاد الانتظام إلى المالية العامة. 

وما كان مخالفة دستورية بإقرار الموازنة بلا قطع حساب سابقاً، بات مخرجه السياسي «تأجيل» الخطوة، وهو ما دفع فرقاء إلى التمسك بالدستور.

دار السجال النيابي على دستورية الخطوة، ولم يأتِ أي من الفريقين المعنيين على الخلفية السياسية للمأزق، حتى الفريق المتضرر من شيطنته عبر الدعاية المفتعلة، في السنوات السابقة، حرصاً على «التسوية». إنها المحكمة يا عزيزي.