إدريس لكريني

في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول 2017 شهدت كردستان تنظيم استفتاء بصدد مستقبل الإقليم، جاءت نتائجه بحسب مصادر رسمية محلية في مصلحة الاستقلال بنسبة تجاوزت التسعين في المئة، وبنسبة مشاركة فاقت السبعين في المئة..

وفي الوقت الذي اعتبرت فيه الحكومة المركزية في بغداد أن الأمر يتعلق بإجراء غير دستوري، وعبّرت عن رفضها القاطع لمناقشة نتائجه مع السلطات المحلية لكردستان باعتباره محاولة لتفكيك البلاد.. اعتبرت هذه الأخيرة أن الأمر خياراً ديمقراطياً لإسماع صوت «الشعب الكردي».. وتدبير ملزم؛ يشكل في مضمونه أرضية للتفاوض مع العراق، ودول الجوار على طريق بناء دولة مستقلة..

وبغضّ النظر عن دوافعه؛ وما إذا كان ينمّ عن رغبة محلية في تحقيق الاستقلال، أو مجرد مناورة لرفع سقف التفاوض مع السلطات المركزية بشأن قضايا خلافية، أو يعكس إرادة خارجية لإدخال المنطقة في متاهات من الصراع والتجزئة، فإن تنظيم الاستفتاء جاء في وقت تعيش فيه المنطقة أوضاعاً متردية على مستويات عدة، يعكسها حجم المعضلات الأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية التي عمقت هشاشة النظام الإقليمي العربي بمؤسساته المختلفة، وفيما يعيش العراق أوضاعاً صعبة ومأزومة بفعل الصراعات السياسية الداخلية، وانشغاله بمكافحة التنظيمات الإرهابية التي أدخلته في متاهات من العنف، وكلفته مساحات واسعة من أراضيه..

يأتي الاستفتاء أيضاً في مرحلة زادت فيها حدّة التضييق على تنظيم «داعش» في العراق وسوريا؛ وهي الجهود التي انخرطت فيها الكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، وبذلت فيها السلطات الكردية دوراً أساسياً، ما ضيق من هامش المناورة لدى التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وكلفها الكثير من الخسائر البشرية والمادية.. 

ومما يثير الانتباه بصدد هذه الخطوة؛ هو أن الأكراد في العراق هم الأفضل وضعاً مقارنة مع دول الجوار (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..)؛ كما أن منطقة كردستان هي الأكثر استفادة من تطور الأوضاع التي شهدها العراق منذ مطلع التسعينات.
إن هذا الاستفتاء في واقع الأمر هو قرار أحادي الجانب، وينطوي على تحدّ واضح لمقتضيات الدستور العراقي، ويعكس قدراً من التجاهل لمقتضيات القانون الدولي التي تضمن سيادة ووحدة الدول.. كما يشكّل مجازفة غير محسوبة العواقب إقليمياً ودولياً، بل وحتى بالنسبة للأكراد أنفسهم..

فالمادة 109 من الدستور العراقي تؤكّد أن السلطات الاتحادية «تحافظ على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي»، فيما تشير الفقرة الخامسة من المادة الثالثة والتسعين منه إلى أن المحكمة الاتحادية العليا تختص ب«الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الأقاليم أو المحافظات»..

لقد وُوجه الاستفتاء برفض داخلي وإقليمي ودولي واسع؛ وهو ما عكسه الموقف الصارم للحكومة العراقية، ولإيران وتركيا التي حذرت من هذه التوجهات ومخاطرها، ونبهت إلى أنها ستباشر عقوبات صارمة تجاه الإقليم.. كما أن الولايات المتحدة، وعلى عكس الموقف «الإسرائيلي» الداعم للانفصال؛ دعت إلى احترام الدستور واعتماد الحوار، وضبط النفس، ورفض أي خطوة انفرادية الجانب؛ وحذرت من التداعيات السلبية لهذه الخطوة، مطالبة بالتركيز على مكافحة تنظيم «داعش»..

وهو الموقف الذي عبر عنه أيضاً مجلس الأمن؛ حيث أشار في بيانه الصادر قبيل تنظيم الاستفتاء إلى أن هذا الأخير سيُعقّد الوضع في مرحلة تقتضي تكثيف الجهود لمواجهة الإرهاب، وأعرب عن حرصه على وحدة وسيادة العراق، وعن أمله في حلّ المشاكل العالقة بالحوار؛ بل ونبّه إلى أن الإقدام على هذا التدبير الأحادي سيربك الجهود الدولية والإقليمية الرامية لتوفير الأجواء لضمان عودة أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ ونازح..

حقيقة أن التوجهات الانفصالية لكردستان تطرح في بعض جوانبها أزمة على مستوى تدبير التنوع، والتواصل، والتعاون، وبناء الثقة بين المركز والمحيط، لكنها محطة - وعلى قساوتها - يفترض أن تشكل منطلقاً لحوار بنّاء يدعم الاحتكام للدستور ومؤسساته (المحكمة الاتحادية العليا)، ويقف على العوامل التي دفعت إلى هذا التوجه الذي لا يخلو من مغالاة ومجازفة؛ ويسمح بتذليل الخلافات والعقبات بسبل عقلانية وديمقراطية تستحضر مصالح الطرفين في بعدها الاستراتيجي، بعيداً عن أي مقاربات مرتجلة وغير محسوبة..

لا تخلو التوجهات الانفصالية الحالية للإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي مريح من مخاطر وتحديات؛ فهو محاط بدول ترفض هذا التوجه بالمطلق، بالنظر إلى تداعياته المحتملة على استقرارها، باعتبارها تحتضن أقليات كردية، كما أن الانفصال لا يؤدي بالضرورة إلى الديمقراطية، ولا للتنمية والاستقرار؛ وهو ما تعكسه الحالة في جنوب السودان.. بل إن هذه التوجهات، وما سيرافقها من ضغوط مرتقبة من قبل العراق، ودول الجوار ستفرز حالة من الحذر والشك في علاقة الإقليم بمحيطه، بما سينعكس بالسلب على مسار التطور الذي شهده الإقليم في العقود الأخيرة، وعلى شعبية الحزب الديمقراطي الكردستاني.. 

إن التعاطي الحذر للمجتمع الدولي مع الاستفتاء ورفضه؛ يعكس الوعي بخطورة الأمر على استقرار الدول، وتهديد سيادتها؛ والتحريض على الانفصال؛ خصوصاً أن الكثير من دول المنطقة تحتضن مكونات اجتماعية، وثقافية، ودينية مختلفة.. بل أفرز هذا التوجه تضارباً في مواقف بعض الفصائل السياسية داخل الإقليم، بسبب ما اعتبرته تجسيداً لقرار أحادي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وخلق جوّا من القلق والانتظارية بعد تصاعد التهديدات والتحذيرات التي أطلقتها السلطات العراقية المركزية، وعدد من دول الجوار..

تقتضي المرحلة الراهنة بكل تحدياتها وإشكالاتها؛ تدبير الأزمة التي أفرزتها هذه الخطوة غير المحسوبة بأقل تكلفة؛ عبر اعتماد الحوار والتوافق بين مختلف الأطراف في بغداد وكردستان؛ كما يتطلب الأمر بلورة مواقف إقليمية ودولية داعمة لحلّ مستدام يوازن بين سيادة ووحدة العراق من جهة، ومصالح الساكنة في الإقليم من جهة أخرى..