محمد الرميحي 

دون تهويل أو تهوين تدخل المنطقة من زاوية «التوسع الإيراني في الجوار» مرحلة جديدة، الكلمات المفتاحية لها قالها الرئيس الأميركي دونالد ترمب «إنْ تجاهلنا المخاطر، فإنها سوف تنتهي بكارثة» في معرض حديثه الأخير حول إعادة النظر في الاستراتيجية تجاه طهران. 

ثلاث قضايا أصبحت على الطاولة «احتمال الوصول لإنتاج أسلحة دمار شامل، تطوير صواريخ عابرة للقارات، التدخل في شؤون الجيران إلى الغرب من إيران - الإرهاب».. هذه القضايا طرحت متداخلة ومترابطة في الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة، وفي الأشهر القليلة المقبلة سوف يتعرف العالم على الخطوات العملية التي سوف تتخذ لتحول الاستراتيجية إلى واقع على الأرض، من بين الخطوات تفعيل قرار مجلس الأمن رقم 2370 (أغسطس/ آب 2017)، الذي ينص على تجريم الفعل الصريح أو الضمني لأعمال الإرهاب. لم تكن تلك الاستراتيجية مفاجئة لإيران؛ فقد لمح إليها القادم الجديد إلى البيت الأبيض أكثر من مرة، وكانت الأوضح قبل الإعلان الأخير في خطاب الرئيس ترمب في الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي. في حدود ما يفرضه التاريخ الحديث، فإن الدول كما الإنسان، لا يمكن أن يكون متسقاً إن كان صاحب عضلات مفتولة في الساعد وأرجل هزيلة، ربما الاتحاد السوفياتي السابق خير مثال على ذلك، فقد قام بعملية تصنيع كبيرة وأنشأ جيشاً ضخماً، لكن بقية النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت هزيلة، فسقط بسبب عدم التوازن! ذلك هو وضع إيران اليوم، فهي تستطيع، من حيث المبدأ، أن تصل إلى إنتاج أسلحة دمار، كما تستطيع أن تطور صواريخ بعيدة المدى، لكن لا تتوافر لها القاعدة الاقتصادية ولا السياسية لحمل كل ذلك المنتج بتوازن، فهي تسير عرجاء، من جهة استخدام العلم الحديث، ومن جهة مناقضة تطبيق مفاهيم «اجتماسياسية» قرن أوسطية تتكئ على منفيات للعقل وكراهية للحرية. إيران تتدخل في الجوار لسببين؛ الأول شهية التوسع التي هي ليست لصيقة بالنظام الحالي فقط، لكن بفكرة «الإمبراطورية الفارسية» منذ عرفت إيران الاستقلال عن الغرب، والسبب الآخر وهو الأهم ضعف المقاومة في الجوار، أي تفكك الدول المجاورة، كما حدث في العراق ولبنان وسوريا واليمن، هي استفادت من ذلك التفكك وعمّقت التفكيك حتى الآن، لكن ذلك لا يمكن المراهنة عليه أنه ذاهب إلى الاستقرار، أو ويمكن أن يدوم، ودليلنا المظاهرات التي اجتاحت بغداد منذ بضعة أشهر مطالبة بخروج إيران من العراق، وفي اليمن قطاع واسع من الشعب اليمني يقاوم ذلك التوسع من خلال الوقوف أمام ذراع إيران هناك وهم الحوثيون، وليس مستبعداً أن يقوم الشعب السوري، بمجرد أن يسترد بعض عافيته بالتصدي لجماعات إيران في القطر السوري. لا يريد النظام الإيراني أن يفهم أو يعترف بأن «نموذجه» غير قابل للحياة في بيئة ترى أن مستقبلها في مكان آخر، في الحرية الحقيقية والاستقلال والتنمية التي تفرضها العولمة والثورة الاتصالية. ما يحدث اليوم في العراق من تدخل عسكري إيراني ضد الكرد يؤشر لما يمكن أن تغوص فيه إيران في المستقبل من حروب طائفية وعرقية ومناطقية مختلفة في جوارها العربي، كل ذلك على حساب الاقتصاد الإيراني الذي يئن تحت طائفة من العجوزات الحالية والمتوقع لها أن تتفاقم بمجرد وضع الاستراتيجية الأميركية الجديدة موضع الفعل. ما صدر وما يصدر من إيران قبل وبعد الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة يدل على ارتباك نظام طهران، حيث لم يكن يتوقع تلك المراجعة العميقة، وقد راهن قبل الإعلان عن تفاصيل الاستراتيجية على التهديد والوعيد، بأن على الولايات المتحدة أن تبتعد ألفي كيلومتر عن حدود إيران! ثم لجأت طهران إلى المراهنة على انقسام أوروبي، لم يحدث كما توقعت، ثم أخيراً على احتمال التعايش مع الإدارة الأميركية، إما لثلاث سنوات مقبلة (الباقي من الفترة الأولى للرئيس)، أو أن تنتهي ولاية ترمب مبكراً بسبب العراقيل التي يواجهها! أما أن يعاد انتخابه فذلك «مستحيل» حسب الرأي الإيراني! أي أن طهران أصبحت تعرف أن الولايات المتحدة هي الأساس في تسيير أمور الاتفاق الموقّع في يوليو (تموز) 2015 أو تعطيله، بقي عليها أن تعرف أن الاستراتيجية الجديدة تُكمل من خلال المؤسسات وليست إرادة أفراد. إدارة باراك أوباما لما سعت إلى الوصول إلى ذلك الاتفاق في 2015 لم تكن بوارد أن تنظر إلى أكثر من عشر سنوات، لتعطيل وصول طهران حيازة القدرة النووية، وهي لا بد أن تعرف ما يعرفه عامة المطلعين على تكنولوجيا القدرة النووية أن التحضير لها وبناء بنية تحتية جاهزة، تجعل من أي دولة قريبة إلى تلك القدرة في أشهر قليلة، المثال هو اليابان التي تقول أدبيات متوفرة إن تلك البلاد تستطيع بما تملكه من بناء تحتي وتقني، أن تصل إلى القدرة النووية في أشهر! وهي ليست وحدها، بل هناك عدد من دول العالم في الموقع نفسه. تجاهلت إدارة أوباما ذلك الاحتمال، كما تجاهلت حتى تجربة المفاوضات المماثلة مع كوريا الشمالية في العقد الأول من القرن الحالي، عندما أشركت عدداً من الدول المجاورة في المفاوضات، والتي في النهاية أهملتها كوريا الشمالية، نتيجة حسابات خاصة بها. يخطئ من يعتقد أن الاستراتيجية الجديدة هي أولاً من فكر شخص واحد، ذلك ينفيه عدد من الشواهد بما فيها قوانين مررها الكونغرس الأميركي في هذا الصدد، كما يخطئ من يرى أن الملف الإيراني بعيد عن الملف الكوري الشمالي، فهناك هامش من التماثل فيما بينهما. إن أردنا أن نمد بصرنا إلى المستقبل المتوسط فإن ما تم البناء عليه في طهران من توسع في الجوار ومساندة للإرهاب وإصرار مرضي في معاداة الولايات المتحدة والغرب، جاء وقت التفكير في نقضه جدياً. مركزية سياسة الولايات المتحدة في التأثير على الواقع، أفصحت عنها إيران بطريق غير مباشر، عندما هددت أن خروج أميركا من الاتفاق، يعني تخلص إيران من التزاماتها، لم تفكر حتى في بقية الموقعين، أو أنها سوف تبقي على الاتفاق إكراماً للدول الأخرى! نحن الآن في نهاية حدود القوة الإيرانية التي سمحت لها ظروف التغيرات في المنطقة لتتمدد، فهي أمام قبول التلازم الثلاثي النووي وإنتاج الصواريخ والتدخل في الجوار ودعم الإرهاب، كحزمة واحدة، إما حل كل تلك الملفات أو مواجهة صعوبات لم تألفها في سابق عقود فترة حكمها.

آخر الكلام: 
تبيع إيران وهم التدخل في الجوار على أنه تدخل وقائي، إن لم نقم به، كما قال المرشد، سوف يصل إلى طهران. تلك المناطق الرمادية لذهنية الإنكار وتكريس الأخطاء التي أوصلت المنطقة إلى حرائق مدمرة، آن أوان إخمادها.