محمد نور الدين

بعد صمود استمر حوالي القرن عانى الوطن العربي مشكلات عدم الاستقرار، والذهاب إلى خيارات انفصالية لدى بعض المجموعات.
وقد عرف العرب انفصالاً كاملاً وحيداً، وهو استقلال جنوب السودان عن باقي البلاد، بعد حرب أهلية دامت عقوداً. ويعاني العراق وضعاً شبيهاً جداً بجنوب السودان مع مطالبة إقليم كردستان العراق الاستقلال، وذهب فعلاً إلى استفتاء من جانب واحد يوم 25 سبتمبر/أيلول 2017. حتى لو لم يستقل إقليم كردستان العراق، فإنه يتمتع بهامش واسع جداً من التحرك كدولة مستقلة؛ بل لعله يستفيد مما يوفره العراق الاتحادي أكثر مما لو كان دولة مستقلة.
ومع بدء الفوضى المسماة ب«الربيع العربي» تعرضت أكثر من دولة عربية لمخاطر التقسيم الواقعي أو الإنهاك الداخلي، الذي يحطم وحدة الدولة ومتانتها ووحدتها.
من ذلك ليبيا، التي تتقاسمها قوات وتنظيمات متعددة ومتصادمة دموياً، وليس فيها حكومة مركزية قادرة على بسط نفوذها، وإعادة اللحمة الجغرافية والإدارية والسياسية للبلاد. وتتعرض اليوم لمخاطر التفتت إلى أكثر من كيان أو البقاء نازفة بين أكثر من طرف وقوة.
أما سوريا، فتبدو خاضعة لنفوذ أكثر من قوة: من الأكراد المدعومين من أمريكا إلى مناطق تحت السيطرة التركية، إضافة إلى مناطق سيطرة النظام. ولا نغفل بالطبع الوضع في العراق، الذي ينزف باستمرار، ويواجه مخاطر التقسيم الكامل بين كرد وعرب، وربما أكثر من ذلك، فضلاً عن اليمن ومعاناته الكارثية.
من البديهي أن يظهر السؤال عن أسباب هذه التوترات والصدامات والنزاعات بين مكونات البلد الواحد أو بين دول الوطن الواحد.
نكرر دائماً أن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية نجحت في تخفيف التوترات والاحتقانات بين دولها المتحاربة، وبعد سقوط عشرات الملايين تصل إلى خمسين مليون قتيل بحسب بعض التقديرات فضلاً عن الدمار الشامل في بنيتها التحتية. تجاوزت أوروبا هذه النكبة بجرأة وعزم، فأقامت نظام الديمقراطية والمساواة الاجتماعية التي تعطي الأمان الاجتماعي للمواطنين. انقسم المجتمع سياسياً أو اقتصادياً؛ لكن لم يفكر أحد بالانقسام الجغرافي أو القومي أو المذهبي.
هذه هي القاعدة الثابتة التي لا تخلو من استثناءات. كأن تريد كتالونيا واسكتلندا ورابطة شمال إيطاليا وكورسيكا الانفصال عن الوطن الأم رسمياً. كذلك يريد جناحا بلجيكا إنهاء تعايشهما. وفي أوكرانيا النصف الشرقي الروسي متمرد على البلاد، فيما شبه جزيرة القرم تمردت وانضمت إلى روسيا. وأبعد من الأطلسي فإن كيبك تسعى دوماً لتحقيق الاستقلال عن باقي كندا، كما أن ولاية كاليفورنيا ترغب في ذلك، والعديد من الولايات الأخرى. هذه الاستثناءات ليست قليلة وتكاد لا تكون استثناء.
ما تقدم يدفع إلى خلاصتين:
الأولى: أن المواطنة الكاملة دون النظر إلى العرق والدين والمذهب والجهة الجغرافية تخفف كثيراً من التوترات والانقسامات والانفصالات. وهو ما فعلته المنظومة الحضارية الأوروبية في العلاقات داخل كل دولة كما بين الدول، وانتهى الأمر إلى قيام الاتحاد الأوروبي كتجربة رائدة في مجال الاستقرار والتعاون الدولي.
الثانية: أنه رغم كل ذلك فإن الشعوب أو المجموعات المختلفة تمتلك خصائص فطرية تتعدى المكاسب المهمة مثل المساواة والمواطنة المتساوية والديمقراطية والرخاء وغير ذلك؛ لكنها مع ذلك تسعى إلى الاستقلال كما أوردنا أعلاه في أكثر من منطقة. وحين تصر مجموعة على الاستقلال؛ بل تذهب إلى خيارات عنفية إذا تطلب الأمر، مثل: إيرلندا الشمالية (ونحن هنا نكتفي بأمثلة غربية «حضارية»)، فإن الأمر يصبح موضع نظر وإعادة تقييم. أما في وطننا العربي وأيضاً العالم الإسلامي فإن أهم ما يجب تجنبه في سياق السعي لدراسة الحالات الانقسامية عدم اللجوء إلى العنف والبقاء تحت سقف احترام الآخر على قاعدة «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعرفوا».