عبدالله المدني

 إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعيش مأزقاً مع الدولتين النوويتين الأكثر شغباً في العالم وهما كوريا الشمالية وإيران. وقد بدا ذلك جلياً في خطاب ترامب الأخير أمام الدورة 72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي حفل بلغة التهديد والوعيد ضد الأولى بسبب أعمالها الطائشة في إطلاق الصواريخ الباليستية وتهديد جاراتها، وضد الثانية بسبب خرقها لبنود الاتفاقية التي وقعتها مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن+ ألمانيا.

ويتجلى المأزق مع طهران في احتمال عودتها إلى التخصيب وبناء قدراتها النووية والصاروخية دون حسيب أو رقيب، في حالة إعلان ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية يوليو 2015 التي وقعتها إدارة أوباما مع طهران، بدعوى أنها «الاتفاقية الأسوأ التي وقعت عليها واشنطن في تاريخها» طبقاً لما كرره ترامب مراراً وتكراراً، علماً بأن تحلل طهران من كل ما التزمت به بموجب الاتفاقية ليس مجرد تكهن، وإنما بات أمراً مؤكداً طبقاً لما ورد في خطاب الرئيس الإيراني روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 سبتمبر المنصرم. وعلى رغم عدم تصديق ترامب في 12 أكتوبر الجاري على موضوع التزام طهران ببنود الاتفاق النووي المبرم معها، وتحذيره من أن بلاده ستنسحب منه في نهاية المطاف، فإن ما يتردد كثيراً هو احتمال قيام واشنطن بتعديل بعض بنود الاتفاقية، كي تتناغم مع المصلحة الأميركية، بدلاً من الانسحاب منها، مع فرض عقوبات إضافية على طهران. فمثل هذا النهج قد يخفف من الانتقادات الحادة التي ووجهت بها من قبل موسكو والاتحاد الأوروبي ورموز الإدارة الديمقراطية السابقة وفي مقدمتهم مهندس الاتفاقية «جون كيري».

والحقيقة المعروفة هي أن الاتفاقية النووية الموقعة مع إيران احتوت على بنود سهلت على طهران استعادة أموالها المجمدة في المصارف الأميركية منذ زمن الشاه، والدخول في معاملات وصفقات مع كبريات الشركات والمؤسسات الأميركية والغربية، ولكنها لم تحتو في المقابل على بنود تفرض عليها تبني سياسات خارجية رشيدة ومواقف عقلانية بما في ذلك الموقف من الولايات المتحدة التي ظل حكام طهران يحرضون ضدها بشعارهم الأثير «مرك بآمريكا» (الموت لأميركا). كما أن الحقيقة المعروفة الأخرى هي أن التوصل إلى الاتفاقية كان نتاج سنوات من ابتزاز إيران للعالم عبر التلويح ببرامجها النووية، وخلال تلك السنوات كان نظام بيونج يانج الستاليني يراقب عن كثب ما ستؤول إليه الأمور كي يبتز هو الآخر العالم بنفس السلاح.

وها هي كوريا الشمالية في عهد زعيمها الحالي «كيم جونغ أون» تريد أن تبلغ ما بلغته إيران بسياسات الابتزاز، بمعنى أن تجعل قوى العالم الكبرى تتهافت عليها وتخطب ودها وتقدم لها اتفاقية مشابهة للاتفاقية مع إيران، تعترف فيها بقدراتها النووية وتسمح لها بالاحتفاظ بها مع فتح الأبواب أمامها لنيل المساعدات والقروض وتوقيع الصفقات كما لو أنها دولة محترمة في المجتمع الدولي، وليست دولة مارقة تذيق شعبها الهوان وتهدد أمن واستقرار وسلامة شعوب منطقة الشرق الأقصى بأسرها. ولعل ما شجع كيم على ممارسة سياسات الابتزاز طويلاً هو تذبذب مواقف ترامب وإدارته من النظام الإيراني وبرنامجه النووي والباليستي طيلة الفترة الماضية.

وانطلاقاً من هذه النقطة ينشأ المأزق الأميركي مع بيونج يانج. فإنْ تركت واشنطن الأخيرة لشأنها ولم تعر اهتماماً لتهديداتها فقد تذهب بعيداً في غيها وسياساتها المدمرة للأمن والسلم العالميين. وإن وافقت واشنطن على التفاوض معها من أجل التوصل إلى اتفاقية شبيهة باتفاقيتها مع ملالي طهران، فإنها ستفقد ماء الوجه وتبدو كمن ركع للابتزاز تحت التهديد النووي لزعيم أهوج لدولة عالمثالثية، بل قد يشكل الحدث مبرراً لقوى نووية أخرى للاقتداء بالكوريين الشماليين. أما إذا استبعدت خيار التفاوض، فإن البديل لن يكون سوى حرب باهظة التكاليف لا يمكن التكهن بحجمها وخسائرها ومداها الزمني وآثارها على حليفتي واشنطن اليابانية والكورية الجنوبية.

على أن كل الخيارات السابقة، ستختفي تلقائياً في حال تمكن الأميركيون وحلفاؤهم في شمال الشرق الأقصى من الإطاحة بنظام كيم، وهو أمر صعب المنال، حتى وإن كان ترامب قد تطرق إلى الموضوع عرضاً حينما كتب تغريدة في 24 سبتمبر المنصرم قال فيها إن «نظام كوريا الشمالية لن يعيش طويلاً»، وهي التغريدة التي أثارت بيونج يانج وجعلتها ترد على لسان وزير خارجيتها بالقول: «إن ترامب أعلن الحرب على دولتنا، وبالتالي فإن لدينا الحق في اتخاذ كل إجراء للدفاع عن النفس بما في ذلك إسقاط قاذفات القنابل الأميركية في أي وقت وأي مكان».

ولأن بيونج يانج تدرك ورطة واشنطن في كيفية مواجهتها، وتعي أن بكين وموسكو مصطفتان معها وإن قالتا خلاف ذلك، فإن استفزازها النووي العابر للقارات مستمر، وتهديداتها لا تتوقف، بل صارت مؤخراً مشفوعة بأفلام وفيديوهات مصممة خصيصاً لبث الرعب جراء ما سيحل بالكون من تدمير لو ضغط «الزعيم المبجل كيم جونغ أون» زر القنبلة الهيدروجينية بيده، يستوي ذلك في حالتي بلوغ القنبلة هدفها أو سقوطها في المحيط.