رندة تقي الدين 

«في الأرشيف السري للكي دورسيه»، كتاب صدر عن دار النشر الفرنسية ايكونوكلاست وأطلق صدوره وزير الخارجية جان إيف لودريان الأسبوع الماضي محيياً جهد المدير العام لأرشيف الخارجية الفرنسية السفير هيرفي ماغرو وإدارة موريس فيس العلمية لتأليف الكتاب الذي يتضمّن وثائق تاريخية ورسائل وتقارير سفراء فرنسا المعتمدين في الدول المعنية بأحداث تاريخية من ١٩٤٥ إلى ٢٠٠١.

ومن المشاركين في الكتاب (٣٨٦ صفحة) وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين والسفراء الفرنسيون السابقون جان بيير لافون (السفير السابق في لبنان الذي كان دبلوماسياً شاباً في السفارة الفرنسية في طهران في نهاية عهد الشاه)، والسفير السابق في واشنطن فرانسوا بوجون دوليتان (كان سفيراً أثناء أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١)، والكاتبة هيلين كارير دانكوس المتخصّصة بتاريخ الاتحاد السوفياتي وروسيا، والديبلوماسي السابق جان بيير فيليو الذي عمل في سورية والأردن والقاهرة والعراق، وعدد آخر من الديبلوماسيين الذين مثلوا فرنسا خلال أحداث تاريخية مهمة.

ومن الأحداث التي يشار إليها في الكتاب تأسيس دولة إسرائيل العام ١٩٤٨، وعملية تأميم قناة السويس في 1956، وانتهاء حرب الجزائر في ١٩٦٢، واجتياح العراق الكويت -حرب الخليج الأولى في ١٩٩١-، وانهيار حكم الشاه في إيران في ١٩٧٩، وتدمير جدار برلين في ١٩٨٩، ومصافحة ياسر عرفات وإسحق رابين في واشنطن في ١٩٩٣، والعمليات الإرهابية في ١١ أيلول ٢٠٠١ في الولايات المتحدة وغيرها من أحداث أوروبا وأميركا وأميركا اللاتينية التي كتب عنها دبلوماسيون فرنسيون كانوا معتمدين هناك.

 

خطوات الاعتراف بإسرائيل

في ما يتعلق بتأسيس إسرائيل يشير أرشيف وزارة الخارجية إلى أن باريس في ١٤ أيار (مايو) ١٩٤٨ لم تعترف بإسرائيل على رغم القرار الأميركي، وأن الديبلوماسي ألكساندر بارودي الذي كان يرأس مجلس الأمن لم يدن هجوم الجيوش العربية الخمسة على الدولة الجديدة، وقررت حكومة روبير شومان بحسب الأرشيف ألاّ تقرر شيئاً، ولكن الاعتراف كان تم إقراره في الواقع، وكان هناك نص معدّ للقراءة في الجمعية الوطنية. والواقع أن شومان (رئيس حكومة ووزير خارجية فرنسي سابق) كان يتردّد ولم يكن وحده في هذا الموقف، فكان الوزيران ماير ودوبرو يقولان إن «فرنسا قوة إسلامية عليها أن تبقى حذرة، وأن دورها حماية الأماكن المقدسة، ولكن في تشرين الثاني (نوفمبر) أرسلت باريس إلى إسرائيل ديبلوماسياً فرنسياً شاباً هو ألبير فانتيي المولع بما يسميه «المعجزة اليهودية».

في ١٩٤٩ بدأت مفاوضات في الخارجية الفرنسية (المعروفة بالـ «كي دورسيه»)، ووافق الإسرائيليون على المشاركة مدركين أن الاعتراف الفرنسي يفتح لهم أبواب الأمم المتحدة. من الجانب الفرنسي، يذكر الكتاب أن الهدف كان الحفاظ على المؤسسات المسيحية التي تأثرت بالحرب والحصول على تعويضات لتقديمها للعرب. وكان النقاش حول انسحاب الجيش الإسرائيلي «تساحال» من جنوب لبنان وتعويض اللاجئين الفلسطينيين من أصل مغربي، ولكن كان القرار قد اتُخذ، والاعتراف المتوقع لفرنسا بالدولة الإسرائيلية تم في ٢٤ كانون الثاني (يناير) ١٩٤٩، تبعتها بريطانيا ودول أوروبية أخرى. وفي ذلك الوقت انتهت المفاوضات بين شومان وموريس فيشر (المفاوض الإسرائيلي الذي كان بمثابة سفير لإسرائيل في فرنسا، علماً أنه كان سابقاً ينتمي إلى القوات الفرنسية الحرة. وكان هنالك تبادل رسائل بين شومان وفيشر حيث تعهّدت إسرائيل حماية المؤسسات المسيحية مع غموض في ما يخص تدويل القدس.

 

مصر والجزائر

وأظهرت تقارير الديبلوماسية الفرنسية في ١٩٥٦ ردود الفعل الغربية إزاء تأميم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر شركة قناة السويس. ونشرت رسالة السفير الفرنسي أرمان دوشيلا آنذاك ينصح فيها الحكومة الفرنسية بالتصدي لتأميم القناة، مقترحاً مقاطعة القناة من القوى الأساسية. وكتب في رسالته: «لا أدري ما إذا كان ذلك ممكناً، ولكن في غياب رد فعل فوري سيعتقد الديكتاتور المصري أن كل شيء مسموح له، ومن غير الممكن تركه يتصرف بحرية وإلا سيعتقد أن له حرية التصرف، فهو يقوم باختبار قوة لا ينبغي أن نتركه يكسبه».

أما الحرب الجزائرية، فطرحت مسألة السلام ومستقبل الشعوب بحسب أرشيف الكي دورسيه، والجنرال شارل ديغول الذي عاد إلى السلطة في ١٩٥٨، التزم في ١٦ أيلول (سبتمبر) ١٩٥٩ الطلب من الجزائريين أن يحدّدوا ما يريدون من خيارات ثلاثة: الاندماج أو الاستقلال أو الحكم الذاتي بالمشاركة مع فرنسا. والتقى الوفدان بعد انقلاب الجنرالات في ٢١ نيسان (أبريل) ١٩٦١، وكان الوفد الفرنسي برئاسة لوي جوكس (الوزير المسوؤل عن القضايا الجزائرية). أما ممثلو «جبهة التحرير الجزائرية FLN» فكان على رأسهم كريم بلقاسم، وعُقد عدد من اللقاءات السرية في مفاوضات أدت إلى نص من ٩٣ صفحة يعلن وقف إطلاق النار وشروط السلطة الذاتية وإعلان المبادئ الذي وقّعه في مدينة إيفيان في ١٨ آذار (مارس) ١٩٦٢ كريم بلقاسم ولوي جوكس والوزراء الفرنسيون الذين رافقوه (روبير بورون وجان دوبروي) وتم قبول الاتفاق بأغلبية فرنسية في استفتاء ٨ نيسان (أبريل)، وفي الجزائر صوّتت أغلبية ساحقة للاستقلال بالتعاون مع فرنسا، وتم إعلانه في ٣ تموز (يوليو) واحتفلت الدولة الجديدة به في ٥ تموز.

يعرض الكتاب بعض أقوال المشاركين في مفاوضات إيفيان. فأحد أقوال جوكس: «لا نسعى إلى إنشاء هوية مهيمنة إنما هوية مزدوجة، واحدة منهما حية والأخرى نائمة. المواطن الذي لديه هوية مزدوجة ويأتي إلى فرنسا لن يُعتبر أجنبياً، أي أن الجنسية الفرنسية تكون بمثابة جنسية احتياطية». ويقدّم الكتاب بعض أقوال كريم بلقاسم خلال جلسة المفاوضات وتأجيلها من الجانب الجزائري في لحظات معينة بسبب الخلافات في المواقف. ويقدّم الكتاب المحضر الكامل لجلسة المفاوضات الفرنسية الجزائرية في إيفيان في ٣ حزيران (يونيو) ١٩٦١.

 

العراق وإيران

ويتضمن الكتاب تقارير السفير الفرنسي بيار سارل في بغداد في كانون الثاني (يناير) ١٩٧٤. وإحدى رسائل السفير لوزير خارجيته آنذاك ميشال جوبير تصف شخصية صدام حسين الذي كان حينئذ نائب رئيس مجلس قيادة الثورة والأمين العام المساعد لحزب البعث. يكتب السفير سيرل عن صدام: «يقال عنه إنه صاف وقاس ولكنه يعرف أيضاً كيف يكون صريحاً وودياً في اللقاء. هو طويل ونحيف ورياضي القامة. رجل سري على رغم أنه منفتح وصريح في الحوار، وهو فخور وواعٍ ويريد تصوير نفسه كأستاذ الطاقة والدينامية أمام شعبه». ويكتب السفير: «هذا الرجل الشجاع والعقلاني افتتح نهجاً سياسياً جديداً في العراق فقد أجرى تطهيراً عميقاً في الجيش، لأنه مهتم بكسر المجموعة التقليدية للإنتلجنسيا العسكرية في بلد عربي، وهو يقوم بحملة بالتوازي لإقناع الرأي العام أن الديموقراطية قبل أن تكون نوعاً من الحكم هي اختبار طويل يتطلب مسبقاً التطوير الاقتصادي للبلد».

ثم كتب سفير فرنسي آخر هو بيار روكالف لوزير خارجية آخر هو جان فرانسوا بونسيه في 22 أيار (مايو) ١٩٨٠رسالة عنوانها «أسلوب جديد في الرئاسة»: «صدام حسين اكتسب ثقة بالنفس، وبعض الكاريزما لشخصية هي مزيج من بسمة ودينامية جون كينيدي وسيغار ورصانة فيديل كاسترو وتسريحة ياسر عرفات وموضة ثياب جوزف بروز تيتو وحب النصر على نمط جمال عبد الناصر والقدرة على الخطابة على نمط إمبراطور بلاد ما بين النهرين». ويكشف الكتاب هذه الرسائل بالتفصيل، كما يستعرض التطورات التي سبقت انهيار عهد الشاه وثورة الخميني.

وروى لـ «الحياة» السفير الفرنسي جان بيير لافون الذي كان دبلوماسياً شاباً في سفارة فرنسا في طهران كيف أن السفير الفرنسي آنذاك راوول دولي توقّع سقوط الـــشاه والتـــطورات التي لحقت، ولم تصدّقه إدارته في البداية حتى أرسل الرئيس جيسكار دستان وزير داخليته ميشيل بنياتوفسكي بطلب من السفير دولي للتحقُّق من واقع الأوضاع في إيران والاعتراف بصحة تحليل السفير. ويقدّم الكتاب رسائل دولي عن الوضع في طهران وانهيار نفوذ الشاه وتشكيل المعارضة الطالبية، و «آيات الله» الذين قادوا الثورة لقلب امبراطورية الشاه. ويقدّم أرشيف الكي دورسيه حول هذه الفترة رسائل السفير راوول دولي الذي قُتِل لاحقاً في حادث سيارة حين كان سفيراً في إسبانيا.

من بين الأحداث التاريخية التي يعرضها الكتاب ما كتبه وزير الخارجية السابق هوبير فيدرين الذي كان يعمل أميناً عاماً للرئاسة في عهد الراحل فرانسوا ميتران عن حرب الخليج وتدخّلات ميتران فيها بعد أن فشل في إقناع صدام حسين بالانسحاب من الكويت، وقد أدركت فرنسا آنذاك أن قدرتها العسكرية تبقى في الصف الأول لكن وسائلها محدودة. وهناك رسائل السفير الفرنسي في بغداد في ٢ آب (أغسطس) ١٩٩٠ لوزارته من أن الإذاعة العراقية أعلنت عن دخول القوات العراقية إلى الكويت وعزل أميرها. كما نشرت رسائل السفير بعد بدء حرب تحرير الكويت وما كان يقوله القائم بالأعمال الأميركي للسفير الفرنسي عن نتائج العمليات الحربية الأولى لتحرير الكويت.

وفي مادة الأرشيف المتعلقة بالشرق الأوسط يقدّم الكتاب انطباعات السفير الفرنسي جاك أندرياني في واشنطن لدى حضوره المصافحة بين ياسر عرفات وإسحق رابين بحضور الرئيس بيل كلينتون ١٣ أيلول (سبتمبر) ١٩٩٣. يكتب أندرياني عن اختلاف عميق في مظهر الاثنين، إذ إن عرفات أظهر سروره لكونه اصبح معترفاً به فيما معالم التوتر كانت تبدو على وجه رابين. وقد فوجئ السفير أندرياني برزانة عرفات واعتدال لهجته وبمشاعر التأثر لدى رابين، وقال إنه لن ينسى المعنى السياسي والرمزي لهذه اللحظة وأهميتها.

ووردت في الكتاب رسائل السفير الفرنسي في الولايات المتحدة فرانسوا بوجون دو ليتان الذي كان شاهداً على الأحداث الإرهابية في ١١ أيلول في نيويورك وواشنطن، وكتب أنه فور حدوث الهجوم الذي تم تشبيهه في أميركا بهجوم بيرل هاربور أُلقيت مسؤوليته على الإرهاب الإسلامي.

كتاب وزارة الخارجية الفرنسية برسائل السفراء المعتمدين في الدول التي شهدت حوادث تاريخية مهمة، يقدّم وثائق قيّمة عن أحداث كثيراً ما كانت فرنسا أكثر من شاهدٍ عليها بل لعبت دوراً فيها. ولكن لأسباب لم توضَح غابت أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، التي لعبت فرنسا، وبالتحديد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، دوراً في البحث عن وقفها وعن حلول، في حين أن الكتاب تناول أهم الأحداث ما بين ١٩٤٥ و٢٠٠١.