حازم صاغية

الحكم على حبيب الشرتوني ونبيل العلم أثار ضجيجاً اعتراضيّاً ضيّق الرقعة لكنْ مرتفع الصوت. البيئة المسيحيّة احتفلت بالحكم ووجدت فيه ما يطمئنها. ردّا الفعل المذكوران يقولان الكثير عن لبنان وطوائفه وأحزابه اليوم. يقولان أيضاً إنّ الطرفين، الغاضب والمنتشي، مخدوعان:

نضع النقاش القانونيّ جانباً، ونضع أيضاً الرفض المبدئيّ لحكم الإعدام، لنلاحظ عدم التكافؤ بين حالتين:

من جهة، بشير الجميّل كان زعيماً طائفيّاً، مثله مثل باقي زعماء الطوائف. والزعيم الطائفيّ كلّما كان أكثر جذريّةً، في زمن الاستقطاب والتوتّر، كان أكثر شعبيّة في طائفته. هكذا كان بشير. هكذا كان قبله كميل شمعون، وبعده ميشال عون. لهؤلاء أندادهم في الطوائف الأخرى ممّن مثّلوا الموقف الطائفيّ الراديكاليّ في لحظة معيّنة: كمال جنبلاط، وليد جنبلاط، موسى الصدر، حسن نصرالله. رفيق الحريري، في المقابل، حاول أن يؤسّس الزعامة على نزع التعبئة، بدل التعبئة، فكانت تجربته فاجعة.

الاصطفاف السياسيّ الإقليميّ، وأحياناً الأيديولوجيّ، جزء من الزعامة الطائفيّة. كلّ طائفة، كما نعلم، لديها سياستها الخارجيّة وسياستها الدفاعيّة. لكنّ ذلك جزء مكمّل، لا الأساس، في المشروع الطائفيّ. التأسيس يحصل في العلاقات الداخليّة.

في هذا المعنى، فـ «إسرائيليّة» بشير أو «إيرانيّة» نصرالله لا تتقدّمان على رؤيتهما الطائفيّة ولا تنوبان عن تمثيلهما الطائفيّ وعن نظرة طائفتيهما إلى «الوطن» و «الوطنيّة»، وإن كانت هاتان «الإسرائيليّة» و»الإيرانيّة» تشدّان إزر الموقع الطائفيّ وتعزّزان قدرته على فرض رؤيته على المواقع الطائفيّة الأخرى.

إذا صحّ هذا التقدير، كان الخيار أمام اللبنانيّين هو التالي: إمّا أن يكون قتل زعماء الطوائف جميعهم، وهم رموز حرب أهليّة، عملاً مُستحبّاً وحميداً، وهذا بالطبع غير معقول وغير مقبول، أو أن يكون قتل واحد منهم رسالة خطيرة إلى طائفته بأكملها، رسالةً تضاعف الإخلال بالسلم الأهليّ.

من جهة أخرى، الذين قتلوا بشير وهلّلوا لقتله ليسوا طائفة. إنّهم الأقلّ فهماً لتركيب البلد الطائفيّ ولحساسيّاته. لهذا تراهم يمعنون في تأويل الصراع أيديولوجيّاً بلغة «الحرب على الصهيونيّة» و «العداء للإمبرياليّة» وباقي اللغو المشابه. في المقابل، لأنّ «حزب الله» يمثّل طائفة أكثر بكثير ممّا يمثّل أيديولوجيا صراعيّة ضدّ الصهيونيّة، فإنّه يبدو غير معنيّ بموضوع بشير الجميّل بما يتعدّى نثر شتيمة أو شتيمتين، تماماً كما بدا غير معنيّ بموضوع فايز كرم من قبل. ما يهمّه هو إرضاء الطرف المسيحيّ الأقوى، ممثّلاً بـ «التيار» الذي كانت «البشيريّة» أحد أهمّ مصادره. إنّه يأخذ منه، وقد احتلّ رئاسة الجمهوريّة، أشياء كثيرة جدّاً تغطّي سلطته الفعليّة، فيما يرضيه بالفتات: فحين يصدر الحكم الأخير، بينما السلطة الفعليّة لـ «حزب الله»، يكون المعنى مزدوجاً: «حزب الله» يدفع للمسيحيّين من رصيد حزب مفلس هو «السوريّ القوميّ». هذا ما ينبغي أن يُقلق «السوريّ القوميّ» وباقي الذين ينسبون إلى «حزب الله» ما لا يدّعيه، كما ينبغي أن يُشعر المسيحيّين باسترخاصهم. إنّه يُظهرهم بوصفهم خصوم «السوريّ القوميّ».

بالمناسبة، ليس قليل الدلالة أن يكون الحزب الأخير أداة الاغتيال. فالتنظيم «العلمانيّ» هذا، الذي ترافق معظم تاريخه مع خدمة طائفة ما من الطوائف، ونظام ما من الأنظمة، يبقى طارئاً وبرّانيّاً في فهمه لبنان وتركيبه. هذا ما وجد تعبيره في غير مناسبة: مع الانقلاب البائس لزعيمه أنطون سعادة الذي انتهى بإعدامه في 1949. مع الانقلاب الأكثر بؤساً في 1961-1962 الذي انتهى بزجّ الحزب في السجون (وبين الحدثين كان اغتيال رياض الصلح في عمّان والضابط عدنان المالكي في دمشق). في هذه الحالات جميعاً، كانت الطوائف تلتقي على نبذ هذا الهامش الذي يشبه زائدة مزعجة يستغني عنها الجميع. تورّط الحزب في العنف، اغتيالاً وانقلاباً، كان يكمّل ضعف فهمه للسياسة ولتعقيدات المجتمع الذي يعمل فيه، كما يفاقم رغبته في الالتحاق بطرف «قويّ» ما.

إذاً من الصعب أن يمضي اغتيال بشير الجميّل من دون عقاب، لا فارق أكان الرجل «وطنيّاً» أم «عميلاً». ومن الصعب أن يصير الصراخ ضدّ الحكم على الشرتوني والعلم شيئاً يتجاوز الصراخ.

أتباع الطوائف ينبغي أن ينسّقوا أكثر مع الطوائف الأمّ التي يخدمونها، علّ الأخيرة تنفّذ بنفسها أعمال اغتيال مضمونة العواقب لا يُحاسَب عليها أحد.