خلف علي الخلف

يتطلب الاعتراف الدولي النهائي بأي قضية مرتبطة بحيز جغرافي، أن يقبل الإقليم بوجود هذه القضية، الدولة في هذه الحالة، وأن تعتبر قضية محسومة في الإقليم أولاً

في دراستهما الهامة المعنونة «ديناميات القواعد الدولية والتغيير السياسي» والمنشورة في مجلة العلاقات الدولية (1998: 849-905)، تورد الباحثتان مارثافينيمور وكاثرينسيكينك ما تطلقان عليه «دورة حياة المعيار» السياسي في النظام الدولي، وتشرحان الآليات التي وفقها يتم تبني قاعدة أو معيار جديد أو حتى خلقه. وقد رسمتا المسار الذي ينظم دورة حياة المعيار الجديد؛ الذي يمر بثلاث مراحل: الظهور والمأسسة، التدفق والتأهيل الدولي، والتدويل الذي ينتهي بإقرار واستقرار المعيار في النظام الدولي. سأطابق في هذا المقال مفهوم المعيار/القاعدة مع مفهوم القضية، وذلك متضمن بشكل ما في الدراسة المرجعية.
رأت الباحثتان أن المعيار/القضية يمر بثلاث مراحل على المسرح الدولي؛ الأولى هي ظهور القضية كمصطلح على يد رواد يتبنونها أو يخلقونها، ثم يقومون بشرحها للعالم؛ دولاً ومنظمات (حكومية وغير حكومية) وفاعلين دوليين، لكسب التأييد لهذه القضية وتبنيها. عند هذه العتبة يجب أن تكون هناك مأسسة للقضية تمكن من إدراجها ضمن إطار المنظمات والقوانين الدولية. 
وقد تجاوزت القضية الكردية هذه المرحلة؛ فأصبح معروفاً أن الكرد شعب لديه هوية محددة العناصر ومكتملة، يسعى لأن يكون فاعلاً سياسياً مستقلا؛ وأقنع الكرد قطاعا واسعا ومتزايدا من العالم بعدالة قضيتهم كشعب مضطهد حقوقياً وسياسياً وقومياً، لم يحصل على دولة كبقية شعوب المنطقة بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، رغم وجود الإقليم الجغرافي الصالح لإقامة هذه الدولة في ثلاث دول على الأقل في المنطقة. 
لا يمكن نسب فضل هذا كله لعائلة البارزاني، أي رفع راية القضية، فقد التف كرد كثر حول قضيتهم، واستطاعوا تأسيس جمهورية «مهاباد» في نطاق الجغرافية الإيرانية، لكن تلك الجمهورية لم تدم، لأنها قامت بناء على توازنات سياسة دولية، فانهارت سريعاً عندما تغيرت التفاهمات الدولية حولها، فهي لم تقطع شوطاً بعيداً في المأسسة، ولم تدخل مرحلة التأهيل الدولي المتضمنة في المرحلة الثانية؛ حيث تتدفق فيها القضية على المسرح الدولي وتكتسب تأييداً من دول بارزة ومؤثرة، تحاول أن تقلد؛ لدوافعٍ مختلفة، الدول التي ساندت هذه القضية في البداية، خصوصاً إذا كانت من القوى العظمى، أو رائدة في تبني القيم التي تمثلها هذه القضية، وهي في هذا السياق التحرر وتقرير المصير والخلاص من الاضطهاد. فلم تصل القضية الكردية في تلك الفترة إلى كونها حقيقة غير قابلة للنقاش، لتدخل مرحلة التأهيل. فقد عجزت الدولة الضامنة «الاتحاد السوفييتي» عن تأمين تدفق القضية، بل ربما جلبت لهذه الجمهورية تأثيراً عكسياً مما عجل في انهيارها. 
لكن مسعود البارزاني قاد المرحلة الثانية باقتدار، فهو إضافة لخلق مؤسسة جديدة حاملة للقضية على بقعة جغرافية أخرى محددة في شمال العراق، أبدى التزاماً عالياً بشروط التأهيل الدولي ومحدداته الذي قادته الولايات المتحدة هذه المرة، وحشدت له تأييداً عالمياً واسعاً، وقد ساهم في جعل التأييد يسير إلى الحرب المفتوحة بين صدام والعالم، وحربه ضد الكرد أيضاً. ويمكن القول إن مرحلة التأهيل الدولي بدأت بعد فرض منطقة الحظر الجوي على نظام صدام في شمال العراق، مما أدى لتشكل إقليم آمن، مارست النخبة السياسية الكردية برئاسة البارزاني قيادة هذه المنطقة إدارياً وسياسياً، تحت أنظار العالم وخصوصاً أميركا ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، وأبدى البارزاني على رأس هذه القيادة التزاماً واضحاً بالتفاهمات التي توصل إليها مع الإدارة الأميركية التي أطاحت بصدام، ولم يدفعه انهيار النظام في العراق لانتهاز الفرصة وإعلان الاستقلال، ولم يجعل ذلك شرطاً لانخراطه في المشروع الأميركي لإطاحة صدام، لكنه حصل لقاء ذلك على إقليم «كردستان» محدد جغرافيا ولغة وصلاحيات سلطة، أكثر من حكم ذاتي وأقل من استقلال بموجب الدستور العراقي الجديد. في ما تلا تلك الفترة أظهر البارزاني فهماً عالياً لمتطلبات المرحلة فتجاوز كافة المطبات الداخلية في كردستان، وتلك التي لم تكف الحكومة المركزية في بغداد عن خلقها، وكذلك تلك التي خلقتها قوى كردية (العمال الكردستاني) في جواره لإفساد علاقته الناشئة مع دول الجوار (تركيا)، فأصبح لدول العالم المؤثرة قنصليات في كردستان، وصار للإقليم وجود مستقل واقعياً عن الحكومة المركزية، وأرسل بشكل واضح ومستمر رسائل تطمين لكافة دول الجوار، بأن كردستان العراق لن يكون مصدراً أو ملجأً أو ممراً لزعزعة الاستقرار في دول الجوار التي سيكون دورها حاسماً في المرحلة الثالثة والأخيرة والتي تشمل التدويل أي الحصول على الاعتراف الدولي. 
يتطلب الاعتراف الدولي النهائي بأي قضية مرتبطة بحيز جغرافي، أن يقبل الإقليم بوجود هذه القضية الدولة في هذه الحالة، وأن تعتبر قضية محسومة في الإقليم أولاً، إضافة للمستوى الدولي أيضاً، خصوصا القوى العظمى، التي يعود لها بالنتيجة قيادة تأهيل دولة جديدة أو عرقلة قيامها. هذا ما لم تصل له كردستان كقضية «إنشاء دولة». فرغم هامشية قدرة العراق (والعرب ككل) على عرقلة إنشاء كردستان، إلا أن دول الإقليم الأخرى (إيران، تركيا) ما تزال ترى في انفصال كردستان وتأسسها كدولة مستقلة خطراً، رغم عدم تشكيل الإقليم أي مخاطر عليهما في وضعه الحالي.
هذا ما تدركه أميركا، وقد حذرت بشكلٍ حاسم من خطورة إجراء الاستفتاء، تحديداً في هذا التوقيت السيئ، حيث تحتاج أميركا لإجماع إقليمي في حربها ضد تنظيم الدولة الإسلامية غير المنتهية. البارزاني المنتهية ولايته منذ 2015 بعد تمديد عامين، والمستمر في السلطة بحكم وقائع معقدة في المنطقة، والذي يريد أن يبدي أمام المجتمع الدولي احتراماً لتداول السلطة وقوانين الإقليم، جعلته يطلق وعوداً بعدم ترشحه للرئاسة بعد الاستفتاء، أراد أن يختم حياته السياسية بالحصول على لقب «أبو الاستقلال»، وهو لقب مستحق له بجدارة فيما لو أفضى الاستفتاء لدولة. وهكذا أصر على إجراء الاستفتاء مراهناً على جعله أمراً واقعاً أمام الجميع، وربما أغراه على إصراره تأييد بعض الدول للاستفتاء بشدة، معتقداً أنها قادرة على تغير الموقف الأميركي. لكن المؤهل الأميركي أفلت يد الإقليم فاستعادت بغداد خسائر 2014 بالسيطرة على كركوك الغنية بالنفط وكافة المناطق المتنازع عليها، وتغيرت المعادلة على الأرض، وأضيف لها حصار على الإقليم من الجوار، في ظل صمت أميركي! وهو ما شكل خسارة سياسية تكاد تلتهم ما أنجزه البارزاني والقوى الكردية العراقية الأخرى، خلال ما يقرب من ثلاثين عاما من التقدم البطيء نحو الاستقلال.