سعد الصويان

بعد توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز تحولت بلادنا من قبائل متناحرة ومناطق متشرذمة إلى كيان له هيبة وحضور، إلى حصاة القفان الذي لا تعتدل موازين الشأن الدولي بدونه. بعد التوحيد جاءت مرحلة التأسيس، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة البناء. كلها مخاضات عسيرة صهرتنا ووحدتنا وأعطتنا وطنا شامخا وهوية نعتز بها. خلال هذه المسيرة التي خَطّت أول حروفها حربة ابن جلوي على باب المصمك مرت بلادنا بأزمات كثيرة وكبيرة استطاعت تجاوزها والخروج منها بسلاسة فاقت كل التوقعات، وكان آخرها مسألة انتقال السلطة من الأولاد إلى الأحفاد. كان الجميع يتوجسون من هذه المسألة ويتحدثون عنها وأيديهم على قلوبهم. لكننا نرى اليوم كيف تحول هذا التوجس والخشية إلى تفاؤل وثقة بالمستقبل.

ما إن أطل الأمير محمد بن سلمان على المواطنين في أول ظهور له على التلفزيون مع تركي الدخيل حتى تبخرت كل التحفظات وانزاحت عن الصدور كل الهموم. وقد سبق لي في أحد لقاءاتي التلفزيونية أن علقت على تلك الإطلالة بالقول إن «الأمير محمد مثل نجم سهيل اللي إلى طلع تباشرت به العرب». ثم ترسّخ هذا الشعور في إطلالته الأخرى مع داود الشريان حتى أن أحد الزملاء الذي كان معي نشاهد اللقاء علق قائلا «ليته يطلع كل يوم».

محمد بن سلمان يمثل طليعة جيل الأحفاد وهو لم يأت للسلطة طمعا بها، بل يحدوه وازع داخلي بالمسؤولية تجاه هذا الوطن وبأنه حان الوقت لمواجهة التحديات الصعبة وتدشين التغييرات الجذرية اللازمة لمواكبة الأمم المتحضرة. نحن أمام رجل براغماتيكي يقدم خططا واقعية مبرمجة بمواعيد محددة وخطوات قابلة للتنفيذ. أصبحت السعودية من البلدان القليلة التي ينام فيها المواطن وهو على ثقة تامة بأن الغد يحمل الكثير وأن المفاجآت السارة يمسك بعضها برقاب بعض. لم يكن أحد يحلم يوما بهذه الجرأة التي صارت تتخذ فيها القرارات والوتيرة المتسارعة للإنجازات.

الرؤية الوطنية 2030 هي إشارة البدء لمعركة التحدي والتجديد التي ستضع المملكة على أعتاب نهضة حقيقية، فهي تطرح إجراءات عملية وخطوات متدرجة من شأنها أن ترمم البناء الاجتماعي وتعيد هيكلته وفق أسس حديثة ومفاهيم عصرية، إنها تعيد رسم خارطة المجتمع السعودي بما يساعد على فك اختناقات المرور الثقافية والتعامل معها تعاملا رشيدا. صارت دوائر المحظور تضيق والتابوهات تتداعى واحدا تلو الآخر. لقد أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من المجتمعات الطبيعية، فالأمير محمد يغرس فينا وعيا جديدا ويرتّب لنا موعدا مع العصر الحديث ويهيئ لنا مقعدا على مائدة الأمم المتحضرة.

برنامج التحول الوطني يعني التحول من مجتمع ريفي بدوي إلى مجتمع صناعي رأسمالي، إلى اقتصاد السوق. والمجتمع الصناعي الرأسمالي له شروطه وقيمه وقوانينه التي حددها فلاسفة النهضة والتنوير والتي سعت إلى تكريس الانفتاح والحرية والتسامح مما كان له عظيم الأثر وساهم في تقدم الدول الغربية. لقد أدرك أولئك الفلاسفة أن الترابط العضوي بين مكونات المجتمع يعني أنه لا يمكن أن تطور جانبا من جوانب الحياة الاجتماعية كالاقتصاد مثلا، بينما نبقي على الجوانب الأخرى محافظة وتقليدية. فلا بد أن تتوافق القيم الاجتماعية مع القاعدة الاقتصادية.

إننا بحكم المعطيات والتحديات الدولية الراهنة أحوج ما نكون إلى تغيير البنية الذهنية وإعادة تكوين الشخصية النمطية، إلى تعزيز قيم التسامح والانفتاح على الآخر، إلى تبني الفكر التنويري المنفتح حتى نستطيع مسايرة العصر والتكيف مع العالم الحديث الذي يطبق علينا من كل الجهات ويحاصرنا على كل الجبهات. نحن اليوم على مفترق طرق أصبحنا فيه نعد العدة لتحرير عقد اجتماعي جديد يقنّن علاقاتنا وينظمها ضمن مؤسسات رسمية وأطر قانونية تحفظ الحقوق للجميع وتحترم الحريات الشخصية والكرامة لكل المواطنين وذلك من أجل ترسيخ الهوية الوطنية وضمان الحد الأدنى من الإجماع الوطني على قيم يتعارف عليها الجميع ويسلمون بها بما يخدم مصالحنا المشتركة، بحيث لا تستقوي طائفة على أخرى ولا مذهب على آخر ولا فئة على فئة، لأن مفهوم المواطنة يتجاوز كل الانتماءات الفرعية ويعلو عليها ويحتويها ويصهر الجميع في بوتقة الوطن تحت سيادة الدولة والقانون.

الكثير مما كنا بالأمس نعدّه من الثوابت والمسلمات ومن الخصوصية الثقافية كان يقف حجر عثرة في طريق تطوير مناهج التعليم، ويعرقل مسيرة قطاع المال والأعمال ومجالات السياحة والإعلام والفن والترفيه، ويجهض مشاريع الدولة وطموحاتها نحو التنمية والتحديث. ومن الأمثلة على ذلك قضية المسرح ودور السينما ومجالات الترفيه بشكل عام، وكذلك تعليم المرأة وتوظيفها وقيادتها للسيارة. ومما فاقم المشكلة إضفاء الصبغة الدينية على الكثير من هذه القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية.

كانت أخطر محنة واجهناها هي حينما حظيت فئة قليلة من المجتمع بالثقل والتأثير وتمكنت من السيطرة على المسرح ومقاعد الجمهور ومكبرات الصوت وماصات الدراسة، واستطاعت لفترة وبطرق مباشرة وغير مباشرة أن تختطف مسيرة التعليم ومنابر الثقافة والإعلام وحاولت حرف مسيرتها إلى طريق مسدود علميا وفكريا، طريق يقوم على إقصاء العقل تماما بحيث لا تتاح له الفرصة ليمارس دوره في التفكير والتعبير. والآن لم يعد من المقبول ولا من المعقول أن نسلم رقابنا لهذه الفئة القليلة ونسمح لها أن تمارس الوصاية علينا وتفرض على الجميع قناعاتها المتحجرة وتفرض علينا رؤيتها في الدين والدولة والسلوك الفردي وتلزمنا بها على أنها مسلمات وثوابت وطنية لا تقبل النقاش ولا ينبغي الحيدة عنها.

يُروى عن الشيخ عبدالله بن بليهد أنه قابل الملك عبدالعزيز رحمهما الله حينما كان الأخير صبيا يعيش مع أبيه في الكويت، وبحكم معرفة ابن بليهد بجزيرة العرب وسكانها وقبائلها وتاريخها استطاب الفتى عبدالعزيز حديثه، وقبل أن يودعه سأله قائلا ما معناه: ما رأيك يا شيخ عبدالله بشاب لا يملك من حطام الدنيا عدا هذه الخيزرانة وهذه الراحلة، تُرى هل بمقدوره أن يستعيد حكم نجد؟ ولم يَـدُر في خلد ابن بليهد آنذاك أن هذا الفتى يوما ما سيصبح ملك المملكة العربية السعودية، لكنه من باب المجاملة أجابه: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.

كثيرون هم الذين ألمحوا إلى أوجه الشبه بين المغفور له الملك الموحد والأمير محمد بن سلمان: غمزة العين، الصوت الأجشّ،... ولعل ما قصدوه بهذا التشبيه هو التلميح إلى أن المظهر يشي بالمخبر وأن المعجزات تتحقق على أيدي الرجال الأفذاذ. الملك عبدالعزيز قاد معارك التوحيد وحفيده الأمير محمد يقود معارك التجديد، فهو يصحو ويغفو (لا أقول ينام، لأنه الظاهر انه ما هوب ينام)، حاملا على كاهله هموم الوطن. إنه يقوم بواجبه وعلينا نحن كمواطنين ومسؤولين أن نعينه ونقوم كل منا بواجبه قولا وعملا، وأن نحسن به الظن وأن نكون عونا له لا عليه. فمن حق الوطن علينا أن نتعاطى مع قضاياه بمسؤولية عالية وضمير حي.