وائل مرزا

«لم يعد بإمكاني تحمّلُ هذا الأمر. لقد زرت أعداداً لا حصر لها من جنودنا في مستشفى والتر ريد العسكري [حيث يُعالج الجرحى من الجنود الأميركيين]، ومقبرة أرلنغتون [التي يُدفن فيها القتلى من الجيش الأميركي]، ولقد نظرت إلى وجوه زوجاتهم ذوات الثمانية عشر ربيعاً وعيون أطفالهم الرُّضّع. لقد دفنت عراقيين. كلُّ هذا [لأرى الآن] إيران تسيطر على المنطقة! والآن تأتي هذه الخيانة الفظيعة للأكراد، الذين ليسوا أناساً كاملين بالتأكيد، لكنهم على الأقل أحبّوا أميركا ولم يُفجّروا قط سفاراتنا. لقد انتهيت من [الاهتمام بـ ] الشرق الأوسط».

نقلَ هذه الفقرة المُعبّرة على عدة مستويات، عن ديبلوماسي أميركي كبير من دون تسميته، الإعلاميُ والخبير الأميركي مايكل ويز، كبير محرري موقع الديلي بيست، والمُشارك بتحليلاته في دورية «السياسة الخارجية» وقناة سي إن إن. نقَلَها قبل أيام، بعد اجتياح القوات العراقية مناطق النفوذ الكردي شمال العراق.

وخلال الأيام القليلة الماضية، تصدّرت وسائل الإعلام الدولية عناوين من قبيل: «الحكومة الإقليمية الكردية تمر بفوضى عارمة» في شبكة (فرانس 24)، و «ترامب يخون حليفاً للولايات المتحدة سامحاً لإيران بالحصول على اليد العليا في المنطقة» في صحيفة معاريف، و «الدبلوماسيون الأميركان يصفون تعامل حكومتهم مع الأكراد بالخيانة» في صحيفة الإندبندنت، و «انتهاء حلم الاستقلال الكردي» (في شبكة صوت أميركا).

لم تنفع الأكراد وقتَ الحاجة تحديداً، خبرةٌ سياسية امتدت عقوداً، وتضمنت التعامل مع حقول الألغام المحلية والإقليمية والعالمية، وأحداث كبرى من غزو العراق وسقوط صدام إلى الثورة السورية، ومآسٍ مؤلمة حملت معها الملايين من التضحيات والتهجير والعذابات بمختلف أشكالها.

لم يُسعف كلُّ هذا القادة (المُخضرمين) الذين يُفترض أنهم تعاملوا مع مختلف الزعماء والحكومات المؤثرة في صناعة القرار عالمياً وإقليمياً من أميركا وروسيا إلى تركيا وإيران، مروراً بالحكومات الأوروبية. لا يقتصر الأمر على القادة، على رغم خصوصية المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم بحكم موقعهم ونفوذهم وخبرتهم وقدرتهم على صناعة القرار.

وإنما ثمة درسٌ مؤلمٌ وكبير يواجهه أيضاً الملايين من الأكراد، بدءاً من النخب والمثقفين والنشطاء، وصولاً إلى الإنسان الكردي العادي أينما كان، من العراق وسورية وتركيا، إلى أوروبا وأميركا.

لم يقف كل هؤلاء، للحظة، أمام حقائق الجغرافيا السياسية الصلبة في المنطقة. تناسَوا كل دروس التاريخ عن الحكومات الأميركية وسياساتها الخارجية في هذا العالم الكبير، خاصةً حين يتعلق الأمر بمن يُسمَّونَ «الحُلفاء». لم يقرأوا المعادلات، لا التاريخية الوازنة منها، ولا الجديدة المتعلقة بالمتغيرات الكبرى في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية. أو الأصح أنهم قرأوها على نحو خاطئ.

سيتفهّم القارئ النقد الموجه إلى القادة السياسيين الأكراد، وثمة «غصةٌ» قد تحصل عندما يتعلق الحديث بعامة الناس. لكن هذا قد يكون مربط الفرس هنا، كما يقولون.

فنحن لسنا في مقام لوم «البسطاء» على نتيجةٍ كارثيةٍ ربما كان القادة، بقراراتهم، سببها الرئيس. لكن مسار الأحداث كان يسير، بحسبةٍ بسيطة، في اتجاهٍ بدت ملابساته واضحةً للكثيرين، إلا للأكراد أنفسهم، فيما يبدو، شعباً وقيادات.

طغى الحماس، ومعه المزايدات، على وضعٍ تَصدُقُ فيه المعاني الكامنة في القصة المشهورة للطفل الذي صاح قائلاً: «لكن الملك عريان». ففي حين كانت تلك الحسبة تؤكد أن الظروف الراهنة بالذات تحمل في طياتها عناصر رفض استقلال كردستان من قبل الدول المجاورة بأسرها، وأكثر من أي وقتٍ مضى في التاريخ، رأى الأكراد الصورة بالمقلوب تماماً.

تداخلت الطموحات الشخصية بالأحلام القومية، فاعتقد القادة الأكراد أن الفوضى السائدة في المنطقة هي اللحظة المناسبة لتحقيق الحلم التاريخي. ركبت النخبة الكردية الموجة، وهي التي كانت مؤهلةً لتفكيرٍ استراتيجيٍ مختلف، فدخلت في «زفّة» عملية الاستقلال بكل الطروحات والوسائل الممكنة، وساد التنافس على تأكيد صوابية القرار ودقة الحسابات وحتمية النتيجة. فلم يكن من شرائح المجتمع الكردي إلا أن ألقت بنفسها في الموج الصاخب الجاري من دون سؤالٍ أو تفكير. وبدا المسارُ كله داخل المجتمعات الكردية، في المنطقة والمَهاجر، أقربَ لمهرجان احتفالي بِعيدٍ من الأعياد على الطريقة الكردية المتميزة.

هنا تتداخل، بمكرٍ وخبث، الثقافة بالسياسة في شكلٍ غالباً ما يؤدي إلى حافة الهاوية. فالثقافة الكردية معروفةٌ برسوخ العنصر الكرنفالي والمظاهر الفنية والطقوس الاحتفالية في حياتها الاجتماعية. والمعروف أيضاً، أن كل القوى السياسية الكردية، من دون استثناء، استعملت ذلك العنصر، بكثافة وإبداع، ومبالغة أحياناً، في عمليات الحشد والتعبئة، حتى باتت جزءاً من الثقافة السياسية للأكراد.

صبَّ هذا كله في الإيحاء بإمكانية تحقيق الحلم الكبير في هذه اللحظة من التاريخ. لكن منطق التاريخ يفرض ألا ينتج عن الأحلام الكبرى سوى أمرين: تحقيقُها، أو كوارث كبرى بحجمها وأكبر. مفرق الطريق في الموضوع يكمن في الحسابات الاستراتيجية، وقراءة التاريخ، وفهم التحولات في شكلٍ دقيق. لكن مشكلة الأحلام الكبرى أنها تُدخل العاطفة والحنين والشوق في خضم معادلة الحسابات، فتُصيبها في مقتل منذ اللحظة الأولى. ذاك هو «التفكير الرغائبي» متجسداً في مثالٍ عمليٍ كبيرٍ ومعاصر يقدمه التاريخ ملء الأبصار في هذه المنطقة من العالم.

فهل تتعلم عربستان الكبرى من هذا الدرس المؤلم؟
ثمة ما يبث الرعب في معرض المقارنات. وقد يكفي طرح التساؤلات في هذا المقام.
نعم، هناك إجماع لفظي واضحٌ حول خطر إيران، وربما حول تخطيطها الكثيف والمدروس للسيطرة على المنطقة، فهل تُركز السياسات الراهنة، والمستقبلية، الأمنية والعسكرية والديبلوماسية والاقتصادية، بدقة، على مواجهتها مباشرة؟ أم أن بعض هذه السياسات تحمل في طياتها ما يؤدي عملياً إلى التضارب في تحقيق أهدافها؟ 

وهل التركيزُ المذكور متوفر فعلاً، أم أن بعض السياسات يصرف الطاقات والجهود في ساحات أخرى أقل أولوية؟ وعلى رغم كل المؤشرات المُعلنة والخفية، إلى أي درجةٍ يمكن، عملياً، الثقة بالحليف الأميركي، في موضوع إيران تحديداً، وفي غيرها من المواضيع؟ والحساس في هذا السؤال الأخير أن يكون متعلقاً بالمؤسسة وبالنظام، بعيداً من الأفراد، أياً كان موقعهم ونفوذهم في لحظةٍ من الزمان... على رغم أن فهم الموقف الأميركي في التجربة الكردية الأخيرة بمدخل «المصالح القومية»، التي تعلو على كل شيءٍ آخر، أنسبُ في فهم الظاهرة منهجياً من اختزالها بتوصيف «الخيانة». وهذا بحدِّ ذاته فارقٌ في التفكير السياسي بين طريقةٍ تعتمد الحسابات الباردة وأخرى تعتقد أن ثمة شيئاً اسمه «الوفاء» يوجد في قاموس العلاقات الدولية.

هذا كله، بعيداً من حديثٍ، ذي شجون، عن الأحلام والطموحات الكبرى، ودور النخب والمثقفين، والتفكير الرغائبي، وطبيعة الثقافة السياسية، وسواها من مواضيع سيكون مستقبل العالم العربي مهدداً بجدية إن لم يتمَّ تحرير القول فيها اليوم، وليس غداً.


* كاتب سوري