محمد الرميحي

 ليس فريداً أن يتم القتل باسم ادعاء الوطنية، تاريخ هذه المنطقة يعرف حركة «الحشاشين» التي أسهبت كتب التاريخ في توصيف أعمالها الشنيعة، وكانت تغتال معارضيها باسم الوطنية كما تراها. في العصر الحالي تمثلت أنظمة حزب البعث على وجه التحديد ذلك التاريخ الإجرامي، فقام الحزب بفرعيه العراقي والسوري باستخدام تلك الطريقة (التخلص من مخالفيه بالقتل) وبالتصفية الجسدية، فسقط على هذه الطريق الطويلة عشرات الأشخاص،

إن لم يكن مئات منهم، فقط لأن الجهاز السري في الحزب بأوامر من «القائد» قرر تصفية الشخص هذا أو ذاك للتخلص من رأيه! في كل من العراق وسوريا ولبنان أيضاً تمت تلك التصفيات، وفي أماكن أخرى من العالم، بل أصبح لبنان ساحة التصفيات الأهم لحزب البعث السوري ودولته في ربع القرن الأخير. ولو كانت هذه الطريقة البشعة خلفنا وفي زمان مضى وقد تجاوزتها الأحداث، لما استدعيناها في هذا الوقت، إلا أنها ما زالت مقيمة، وتمارس تلك التصفيات تقريباً دون رادع. يقوم بها إما مأجورون من الحزب، أو يقوم بها ذلك الحزب الذي تشكل في هيئة «دولة» أو مناصريه من الأحزاب الأخرى التابعة له. كان منظراً مؤلماً (احتفال حزب الكتائب اللبنانية) الأسبوع الماضي بصدور حكم غيابي من المجلس العدلي على قتلة بشير الجميل بعد خمسة وثلاثين عاماً من عملية اغتياله، ورغم أن الحكم غيابي، اعتبره بعض اللبنانيين رمزياً انتصاراً لاحتمال عودة الدولة من جديد أو رجاء عودتها، هو رمزي فقط ومؤلم في الوقت نفسه؛ لأن شعباً عربياً قدم الكثير من أبنائه خدمات جُلاً لأمتهم، يحتفل بتوقع احتمال قيام دولة تحميه، حتى بعد كل تلك السنين. أن تحتفل فئة مهمة من المكون اللبناني بإصدار الحكم، حتى بعد خمسة وثلاثين عاماً، يعني فيما يعنيه كم هو هذا البلد مبتلى، حيث تتعطل الأحكام وتضيع الحقوق وتصبح حياة الإنسان لا تساوي أكثر من قبضة تفجير، بل وحتى بضع رصاصات بسبب نفوذ حكم البعث السوري، أو بسبب يده الفاعلة اليوم في لبنان وهي «حزب الله». وما أن انتهت الاحتفالية حتى اندلع نقاش حاد قادم من شخصيات في قيادة «حزب الله»، مرة أخرى تبرر القتل القديم والجديد باسم «الوطنية»، وكانت هذه الفئة لا غيرها هي التي تقرر من هو الوطني ومن هو الخائن. وأنها باقية على هذه الطريق الوعرة، ربما ما استفز تلك القيادات الكلام الذي قيل في احتفال إصدار الحكم الغيابي، حيث لم تتأخر الكلمات التي قيلت من الإشارة إلى أصابع الحزب في الكثير من عمليات الاغتيال، وهي سلسلة من الاغتيالات تمت على أرض لبنان من سليم اللوزي، وكمال جنبلاط، مروراً ببشير جميل، ورفيق الحريري، وسمير قصير، وجورج حاوي، وجبران تويني، وأنطوان غانم، ووليد عيدو، ومحمد شطح، وفرنسوا الحاج، ووسام الحسن، وعشرات غيرهم، ومع مضي سنوات وسنوات على عمليات الاغتيال ما زالت العدالة غائبة، كيف يمكن لوطني لبناني أن يبتلع كل تلك السلسلة من الاغتيالات لرجال مغدورين، كانوا فقط يعبرون عن وجهة نظرهم أو يقومون بأعمال كلفتهم بها الدولة! ليس ذلك فقط إنما، آخرون أحياء تم الاعتداء على حياتهم، مثل مروان حمادة، ومي شدياق، وقد تركت محاولة اغتيالهم حتى اليوم جرحاً غائراً نفسياً وجسدياً على أبدانهم وأرواحهم ومحبيهم. رؤساء جمهوريات ورجال دين كما المفتي الشهيد حسن خالد، ورجال دولة، تمت تصفيتهم تباعاً؛ لأن النظام الذي قاوموه وأتباعه لا يعرف المحاجة العقلية، أو يعترف بالرأي الآخر، بقدر ما يعرف في صناعة المتفجرات وإطلاق الرصاص وإرسال القتلة لإسكات الأصوات المناهضة لسياساته القمعية إلى الأبد، كما إرسال رسائل إلى آخرين حتى لا يفكروا قط في رفع أصواتهم ضد الظلم والتخلف والاستهانة بأرواح وأرزاق الناس،. إنها مرحلة لم تنتهِ، فهي ثقافة مبنية على تراث عصوبي يصادر حقوق الآخرين واحتقار كل ما جاءت به الإنسانية من تطور، وفرض وصاية دائمة على الأفكار والأقوال، وحتى الأحلام! فكان من الطبيعي أن يقوم نظام البعث السوري باغتيال شعب بأسره وتخريب المدن وتشريد ملايين من البشر؛ لأن الشعب قرر أن يقول رأيه بصراحة في طريقة الحكم، وأن يطالب برفع المظالم. فكرة الاغتيال السياسي ليست جديدة ـ لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ المعاصر - الفرق أنها كانت تنفذ من خلال جماعة صغيرة متشددة أو أفراد يحملون ضغينة ما تجاه من يُستهدف بعملية القتل، نادراً ما تكون الدولة بكل مؤسساتها هي وراء تنظيم الاغتيالات تخطيطاً وتنفيذاً، ونادراً ما يكون حزب له كوادره ومنظماته ويشارك في العمل العام، أن يتحول إلى فوهة بندقية تصطاد المخالفين؛ تعظيماً لآلهة مصطنعة وأبطال زائفين وتقديس الأموات.

مارست تلك المهمة الدول التي تُحكم حكماً مطلقاً، مثل الفاشية في إيطاليا أو النازية في ألمانيا، أو بعض دول أميركا اللاتينية في وقت ما، لكنها دخلت التاريخ ملعونة مذمومة. في منطقتنا العربية كانت الممارسة الأوسع لتلك الأداة الشريرة من حكم البعث العراقي والسوري معاً مع إفرازاتهما المختلفة، ثم جاءت إيران لتكمل المسلسل، وتوزع أذرعتها تقريباً في كل الدول العربية. فيسقط اليوم ضحايا وتهدر دماء لتمكين إيران من مشروعها وبأيدٍ عربية عميلة لها، وعلينا أن نعترف أن كل الدم المسال لتمكين المشروع الإيراني التوسعي هو في الأغلب دم عربي بيد عربية. هل انتهى هذا المسلسل؟ لا أعتقد ذلك، والمؤشر في لبنان حيث التلقين والتعبئة على أشدها ضد مشروع الدولة اللبنانية، وضد أي من مناصريها في الداخل اللبناني وخارجه، على أساس انتصار الثورة المضادة لطموح الشعبين اللبناني والسوري، مع انتهازية لا تخفى من بعض القوى اللبنانية لمناصرة هذا التسلط المستقوي بالخارج، فقط من أجل البقاء في كراسي السلطة. ما يعزي من هذا السيناريو الأسود هو تصميم وقدرة تيار لبناني متعدد على مقاومة كل ذلك المد، ومحاولته الدؤوب لإبقاء لبنان منارة للحرية والتقدم والخلاص من الظلم، وتأكيد الاحترام العقلاني لمهمة التفكير المستقل والاستخدام الناضج لمفهوم الدولة الحديثة، وهو جهد يبدو أن المجتمع الدولي قد تنبه له وقرر أن يعاضده من خلال بذل المزيد من خطوات حصار تلك القوى ومطاردة نشطائها، وكشفهم للرأي العام العالمي والمحلي؛ فقد أحيت الإدارة الأميركية الحالية الأسبوع الماضي مقتل ثلاثمائة وخمسين جندياً أميركياً في عام 1983 في بيروت، على يد «حزب الله»، والتي وصفها هيربرت ماكماستر، مستشار الأمن القومي الأميركي في الاحتفال بالذكرى، بأنها «أكبر مجزرة بعد بيرل هاربر»، وتذكر تلك المجزرة بعد أربع وثلاثين سنة يعني شيئاً في الأفق، وهذا ما يجب أن يفهم من احتفال الكتائب بشهيدها، الذي قيل، إنه «احتفال بكل الشهداء» الذين وقعوا في طريق التحرر، وكذلك القادمون في الطريق، إنهم من ولدوا أحراراً، والحرية دائماً تنتصر؛ لأن هناك من يتذكر كل تلك الجرائم.
آخر الكلام: 
قد تكونون قد قتلتم العشرات من الرجال، وربما تستطيعون أن تقتلوا آخرين، لكن بقتلكم لهم أحييتموهم!