خليل علي حيدر

تحل هذا العام (2017) الذكرى المئوية لأحداث واتفاقيات ووقائع تاريخية مهمة، لعل أبرزها «الثورة الروسية»، ذلك الحدث الضخم الذي هز بقوة روسيا والعالم، وترك آثاره البليغة على القرن العشرين كله، فكراً وسياسة واستراتيجية، بما في ذلك بالطبع العالم العربي.

كانت الثورة الروسية في الواقع ثورتين، وقعت الأولى خلال شهري فبراير ومارس 1917، حيث تم إسقاط النظام القيصري سياسياً، والثانية في نوفمبر أو أكتوبر - وفق تقويم آخر - وهي الثورة التي قادها حزب البلاشفة الشيوعي بقيادة «فلاديمير لينين»، وغيّرت النظام الاجتماعي الروسي وقلبت حياتها رأساً على عقب، وتحولت «روسيا القيصرية» إلى دولة «الاتحاد السوفييتي»، الذي ظل قائماً متصارعاً مع الولايات المتحدة والغرب فيما سُمي بـ«الحرب الباردة»، حتى بلغ النظام مداه في العجز، فتفكك الاتحاد وسقط ما بين 1989 و1991، وانتهت بذلك التجربة الشيوعية والحرب الباردة وأشياء كثيرة أخرى!

كانت «ثورة أكتوبر»، أشبه ما تكون بانقلاب عسكري، قادَهُ حزب صغير الحجم، ولكنه سرعان ما تمدد وأمسك بتلابيب روسيا الواسعة الأرجاء، والمتعددة القوميات، في ديكتاتورية عقائدية خانقة، امتدت نحو سبعين عاماً ونيف.

وكان هذا الحدث الجبار بكل المقاييس، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، موضع تحليل ونقد، ومادة لعشرات الآلاف من الكتب والمقالات والتقارير والأفلام والتحليلات التي ربما ستستمر لقرن قادم أو أكثر!

أظهرت الثورة الروسية لأول مرة في اعتقادي، مخاطر الثورات الأيديولوجية على الديمقراطية والحريات الليبرالية، حيث روجت الثورة البلشفية لما أسمته «الديمقراطية الشعبية»، و«ديكتاتورية الطبقة العاملة» كبديل لليبرالية التي أسمتها «الديمقراطية البرجوازية»، كما طورت أجهزة الدولة السوفييتية في روسيا الثورية مع مرور الوقت، وسائل فذة في التسلط الحزبي والتعبئة العقائدية وتحريك الجماهير وسحق المعارضة وهيمنة الدعاية والشعارات بدلاً عن المنافسة والإنتاج، والتحكم بالفن والثقافة والفكر، وغير ذلك. وهكذا، كانت ثورة أكتوبر 1917، التي هزت العالم لعشرة أيام ثم لسبعة عقود، مدرسة للكثير من القادة والثوار ممن تأثروا بها واقتبسوا مناهجها وبرامجها ونسجوا على منوالها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والعالم العربي وإيران وتركيا وغيرها.

بل انتقل النموذج الماركسي في البناء الحزبي الهرمي وأساليب التخطيط وتصورات الدولة العقائدية القمعية ووسائل التعبئة و«التمكين».. إلى الأحزاب الإسلامية المعاصرة! وبخاصة جماعة «الإخوان» الإرهابية، الحزب الذي تأسس رسمياً عام 1928، مع صعود التجربة الروسية، والتي نقل إليها سيد قطب - وفي إيران د. علي شريعتي - الكثير من المفاهيم والشعارات الماركسية، بعد إلباسها اللباس الإسلامي - فحلّت مصطلحات كالجاهلية محل «البرجوازية» و«الطليعة المؤمنة المجاهدة» محل «الطليعة الثورية البروليتارية» و«الصليبية العالمية» محل «الإمبريالية الغربية».. وهكذا.

ونجد نفس التأثير التنظيمي الماركسي على «حزب التحرير»، الذي تنظم كتبه الفكرية العلاقة بين أجهزة الدولة والأيديولوجية والحزب، على ما يشبه منوال الدول الحزبية العقائدية التسلطية، حيث كل مصائر الدولة والناس والإنتاج والعلاقات الخارجية والمغامرات العسكرية بيد من يسميه الحزب «الخليفة» ومعاونيه من الوزراء.

وهذه النماذج العقائدية التي يروج لها «الإسلام السياسي» في كتبه الحزبية ومنشوراته، مجرد تجارب وتلاعب بمصائر العرب والمسلمين، يتولاها قادة «الإخوان» وحزب «التحرير» وتنظيمات «الجهاد» والأحزاب الشيعية والسنية، والتي تصطدم أول ما تصطدم بحقائق العالم السياسية والاقتصادية، كما اصطدمت تجربة روسيا العقائدية. وكما هي إيران اليوم منذ عام 1979، وتقاد فيها دول العالم العربي والإسلامي إلى متاهات ومهالك.

نشرت جريدة الحياة في 25-8-2016 مقالاً بمناسبة مرور 25 عاماً على انهيار الاتحاد السوفييتي جاء فيه: (الاتحاد السوفييتي لم ينهر إثر مجازر الجيوش النازية، ولا نتيجة ثورة شعبية عنيفة، بل مات رازحاً تحت الضغط، كان انهيار الاتحاد السوفييتي عبارة عن عدد من الأحداث التاريخية المجموعة في حدث واحد، فشمل انهياراً جيوسياسياً لامبراطورية، وانحساراً لنفوذ موسكو، ولا بد من الكلام أيضاً عن انهيار النموذج السوفييتي لـ«الاقتصاد المنظم». «الاتحاد السوفييتي انهار فعلاً، وخلّف عدداً كبيراً من اليتامى).

لم يكن الانهيار انسحاباً أو تراجعاً منظماً. وفي هذا المجال يورد كاتب المقال «فيكين شيتيريان» ما جرى لمصنع إنتاج السيارات «زيل»، الذي كان يوظف مائة ألف عامل في وسط موسكو، و«قد بيع مقابل مبلغ لا يتعدى 16 مليون دولار أميركي! ومع نهب المعامل بهذه الطريقة، أُقيل الموظفون، أو أسوأ من ذلك، واصلوا العمل من دون أن يتقاضوا رواتبهم طوال شهور، وحتى سنوات».

تحدث كتاب آخرون عن ثورة أكتوبر الروسية، ومصير الاتحاد السوفييتي فماذا قالوا؟ وما العبر؟