عبدالله السناوي

أي حساب لم يكن صحيحاً ما تردد طويلاً وكثيراً، من أن مصر حاربت وضحّت واستنزفت مواردها لأجل فلسطين. كانت تلك دعايات شاعت سبعينات القرن الماضي لتسويغ الصلح المنفرد مع «إسرائيل» وقطع الأواصر مع العالم العربي.


الحقيقة أنها كانت تحارب من أجل أمنها القومي المباشر. بتعبير الضابط الشاب «جمال عبد الناصر» في يومياته الخطية أثناء حرب فلسطين: «إننا ندافع عن مصر قبل أي شيء آخر». وبالوثائق: استهداف مصر هو صلب التفكير الاستراتيجي الغربي المؤسس لـ«وعد بلفور».
بمقتضى نصه، فإن الحكومة البريطانية تلتزم «إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وإنها سوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف».
اغتصاب فلسطين، الوجه المباشر لذلك الوعد، الذي وقعه وزير الخارجية البريطاني اللورد «أرثر بلفور» يوم (٢) نوفمبر (١٩١٧) في كلمات معدودة وقاطعة أرسلها إلى اللورد «جيمس روتشيلد» راعي الحركة اليهودية العالمية، غير أن ظاهر النص لا يخفي ما وراءه من حسابات وترتيبات تتعلق بصميم وحجم ما يمكن أن تلعبه مصر من أدوار.
وفق عشرات الوثائق البريطانية لم يتأسس «وعد بلفور» على أسطورة «العودة إلى أرض الميعاد»، لكنه وظفها لمقتضى رؤية استراتيجية لمستقبل العالم العربي مصر بالذات وبالتحديد.
في مذكرة تلقاها رئيس الوزراء البريطاني «لويد جورج» بعد أربع سنوات من إعلان «وعد بلفور» اقترح مدير العمليات في الشرق الأوسط الكولونيل «ريتشارد ماينر تزهاجن»: «ضم سيناء إلى فلسطين» حتى يكون ممكناً «وضع حد فاصل». المذكرة التي رفعت إلى رئيس الوزراء عبر الجنرال «اللنبي» رأت في مثل هذا الضم تأكيداً قوياً لمركز بريطانيا بالشرق الأوسط.
لماذا نزع سيناء عن مصر؟ ولماذا ضمها إلى فلسطين الوطن اليهودي الموعود؟
تقول المذكرة «إن ضم سيناء يوفر اتصالاً سهلاً بالبحرين المتوسط والأحمر وقاعدة استراتيجية واسعة النطاق مع ميناء حيفا الممتاز، الذي سنستعمله بموافقة اليهود». وإن «من حسنات هذا الضم أنه سيحبط أية محاولة مصرية لإغلاق القناة في وجه ملاحتنا، كما سيمكننا من حفر قناة جديدة..».
بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فهذه تبدو وكأنها تصور مستقبل أكثر منها مذكرة مكتوبة لرئيس وزراء بريطانيا سنة (١٩٢١). نزع سيناء عن مصر لا يزال حتى اللحظة مطروحاً في مراكز الأبحاث وصناعة القرار في الولايات المتحدة و«إسرائيل».
وحفر قناة جديدة تقوض قناة السويس، دراساتها تجري بكل همة للانتقال إلى التنفيذ العملي.
بلغة الوثائق، ولا شيء غيرها، يمكن استنتاج أن الفلسطينيين دفعوا ثمناً مروعاً لاستهداف مصر. كان ذلك الاستهداف موضوعاً لتفكير استراتيجي أخذ وقته وتطورت سياساته وتعددت حروبه.
بكلام موثق، فإن الرؤية الاستراتيجية المؤسسة ل«وعد بلفور» تعود إلى الجنرال «نابليون بونابرت»، الذي أكسبته حملته على مصر وإطلالته على المشرق العربي نظرة للمستقبل وما يجب تبنيه من سياسات تمنع ذلك البلد المحوري من أن يمثل قوة ضاربة في الإقليم تغير معادلاته وتضر بالمصالح الفرنسية الغربية عموماً.
تبدت أمامه «الورقة اليهودية» حلاً ممكناً لمعضلة تحجيم مصر، التي كان يراها بموقعها الفريد «أهم بلد في العالم»، وأن من يسيطر عليها يتحكم في موازين القوى العالمية. هو أول من تبنى فكرة وطن عازل، لا عربي ولا إسلامي، بين مصر والمشرق العربي.
بنظرة ثاقبة أخرى للأستاذ «هيكل» في قراءة وثائق الصراع العربي «الإسرائيلي»: «كانت ميزة بريطانيا في فترة صعودها، أن تحفظ الدرس من أعدائها وتطبق ثقافتهم بأفضل منهم».
هكذا حفظت الدرس عن «بونابرت» وطبقت ثقافته الاستراتيجية أفضل من الفرنسيين حتى تكون صحراء سيناء نوعاً من «سدادة الفلين» تقفل عنق الزجاجة المصرية، التي يمثلها وادي النيل (والتشبيه من خطاب ل«روتشيلد» موجه إلى رئيس الوزراء البريطاني «بالمرستون» بتاريخ ٢١ مايو ١٩٣٩).
وقد كانت تجربة «محمد علي» واتساع مدى حركة جيشه بالمشرق العربي وشبه الجزيرة العربية وتهديده لعاصمة الخلافة العثمانية داعياً إلى تعاظم المخاوف الغربية من أي صعود مصري جديد يكرر تجربته وسبباً مباشراً لإعطاء زخم متصاعد لاحتواء مصر بعازل مع سوريا.
لم يكن «وعد بلفور» سوى الصيغة التنفيذية لذلك التخطيط، الذي أخذ مداه مرحلة بعد أخرى حتى نكبة عام (١٩٤٨) وما تبعها من حروب وصدامات وتراجعات أخطرها معاهدة السلام المصرية «الإسرائيلية» عام (١٩٧٩) التي اعتبرتها «الجيروزاليم بوست» أهم حدث في تاريخ الدولة العبرية بعد إعلان تأسيسها.
للحقائق كلمة جديدة، فاستهداف مصر في عمق دورها وأمنها القومي، وتفكيك العالم العربي ماثلان في المشهد الحالي. تفكيك العالم العربي يرادف تهويد فلسطين. ولم تكن مصادفة تزامن «وعد بلفور» مع اتفاقية «سايكس بيكو»، التي قسمت بمقتضاها دول عربية وأنشئت أخرى.
في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى ماجت المسارح السياسية الأوروبية بالسيناريوهات والأفكار عن مستقبل العرب، بعضها طرح دولة عازلة يهودية وبعضها الآخر مال إلى دولة مسيحية عاصمتها القدس دون أن يكون لهم رأي، أو مشورة.
ولم يكن هناك سرّ على أحد يريد أن يتابع ويكون له موقف فيما يخص مستقبله لكن عدم التنبه لمكامن الخطر بدا شبه كامل.
هذا مالا يصح أن يتكرر بالعجز، أو التجهيل تحت عنوان «صفقة القرن»، التي لا تعني شيئاً سوى التقويض النهائي للقضية الفلسطينية، واستهداف مصر في أدوارها المفترضة ووجودها نفسه، وإخضاع العالم العربي ل«سايكس بيكو» جديدة، وفق خطط وخرائط معلنة لكنها ليست قدراً.