يوسف مكي

جاءت الرياح بالنسبة لرئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، بما لا تشتهي السفن. فالاستفتاء الذي أراده الزعيم الكردي، تكريساً لزعامته، وتتويجه مؤسساً للدولة الكردية، ومنحها الشرعية، بهذا الاستفتاء، كان كارثياً بامتياز، بالنسبة لمستقبله السياسي، وأيضاً بالنسبة للحلم الطويل، الذي راود الأكراد، في العراق، كما في بلدان الجوار، منذ عقود طويلة. 


أخطاء كثيرة، أودت بالبرزاني، وبمشروعه، في إقامة الدولة الكردية المستقلة، في شمالي العراق. أهم هذه الأخطاء هي حالة الإنكار لحقائق الجغرافيا، وللواقع السياسي المحلي والإقليمي، وحقائق التغيرات في موازين القوى الدولية. نقول حالة الإنكار، لأن الزعيم الكردي، تصرف وكأنه يعيش في عالم وحده. لم يصغِ لنداء العقل، ورفض كل النداءات التي وجهت إليه من أصدقائه، في أمريكا وأوروبا وفي الجوار الإقليمي، وتمسك بمشروع خاسر، ابتداء، ليس هناك ما يشي، على الإطلاق، بإمكانية نجاحه.
على المستوى الإقليمي، أشرنا في حديث سابق، إلى ديكتاتورية الجغرافيا، حيث تحاصر المناطق الكردية، برياً من أربع جهات. وكان من المتوقع، موضوعياً، أن ينسق البرزاني، مع دول الجوار، أو واحدة من هذه الدول على الأقل، قبل المضي بتنفيذ قرار الاستفتاء. وتقدير محفزات لهذه الدول كي تقبل بمشروعه، لكنه لم يفعل. وكنا على يقين، أن أقصى ما كان يمكنه عمله، هو إقناع الأتراك، بالقبول بتأييده، في انتزاع صلاحيات أكبر، من قبل الحكومة المركزية، مقابل، وعد بأن يكونوا هم المصدر الرئيسي لتصدير نفط كركوك إلى الخارج.
لم يكن للإيرانيين ولا الأتراك، ولا الجوار السوري، أن يضعفوا الحكومة في بغداد، ويعبدوا الطريق، لإشعال جذوة المطالبة بالانفصال، لدى الأكراد المتواجدين فوق أراضيهم. ولم يكن للقوى الدولية، الحليفة لدول الجوار، أن تتجاهل مواقف حلفائها بالمنطقة، من مشروع انفصال الأكراد عن العراق.
راهن البرزاني، على تأييد «إسرائيل» لمشروعه. وواقع الحال، أن هذا الكيان، تفرد بتأييد الأكراد، وبدا بموقفه هذا وكأنه يقف ضد العالم بأسره. الحكومة الأمريكية، لم تكن تمانع في قيام كيان كردي مستقل في شمالي العراق، لكنها رأت أن الظروف الحالية، ليست مواتية، لتحقيق هذا الهدف، ولذلك لم ترفض مشروع الاستفتاء، ولكنها طالبت بتأجيله. 
وإذا ما تمت قراءة المتغيرات في موازين القوى الدولية بالوقت الراهن، أمكننا تفسير الموقف الأمريكي، الرافض لموقف البرزاني. فهذا الاستفتاء يأتي في ظل تحالف روسي واضح، مع الحكومة السورية، وإيران، وأيضاً في ظل انتصارات عسكرية واضحة، للقيادة السورية، بدعم من حلفائها، في روسيا وإيران وميليشيا حزب الله في لبنان. 
وتأتي أيضاً في ظل ارتباك للعلاقة بين تركيا، العضو بال«ناتو»، منذ بداية الخمسينات من القرن المنصرم، مع حليفها الدولي، الولايات المتحدة. وتعود أسباب هذا الارتباك، إلى اتهام واضح وصريح، من قبل حكومة الرئيس أردوغان للإدارة الأمريكية، بدعم الانقلاب العسكري، الذي يقف خلفه فتح الله جولن، المقيم بالولايات المتحدة. 
يضاف إلى أسباب الارتباك في العلاقة الأمريكية- التركية، دعم أمريكي عسكري واضح للقوات الكردية التي تقاتل في سوريا، تحت شعار مكافحة الإرهاب. إن ذلك، من وجهة النظر التركية، تهديد حقيقي للأمن التركي، لأن الأكراد الذين يقاتلون في سوريا، حلفاء لحزب العمال الكردستاني، العدو اللدود، منذ عدة عقود لتركيا، والذي تسبب في خسائر فادحة للأتراك، في الأرواح، والممتلكات.
وليس من شك، في أن الإدارة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، يراقبون عن كثب، التحالف الروسي - التركي، الذي اتخذ في السنتين الأخيرتين، منحاً استراتيجياً واضحاً. كما يراقبون التقارب في العلاقة التركية- الإيرانية، واجتماعهما معاً، على رفض أية محاولة انفصالية كردية، في العراق. وقد تعززت مؤخراً، علاقة تركيا، بحكومة بغداد، وتحققت مناورات عسكرية، بين البلدين، رغم أنها اعتبرت رسمياً، جزءاً من التعاون المشترك بينهما في مكافحة الإرهاب، إلا أن حدوثها، قبيل عملية الاستفتاء بأيام قليلة، حمل مؤشرات أخرى، غير تلك المعلنة. 
لقد جاء زلزال كركوك، وسهولة اجتياح المدينة، من قبل الجيش العراقي، والحشد الشعبي، بإسناد من طهران، ليقلب الطاولة رأسا على عقب، وليطيح بمشروع البرزاني، وليكشف كم كانت قراءته سطحية، وساذجة للمتغيرات السياسية في المنطقة، وللتحولات في ميزان القوى الدولية، التي لم تكن في صالح تحقيق مشروع الانفصال الكردي، عن المركز. 
الثمن الأبلغ بالنسبة للبرزاني، هو أن زلزال كركوك، لم يودِ بمشروعه السياسي فحسب، بل أودى بمستقبله، كقائد كردي. لقد صوّت البرلمان الكردي، على عدم التجديد له في المنصب الرئاسي، وتقاسم وظائفه، بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وسيغادر المسرح السياسي، ربما للأبد. 
لقد كان الاستفتاء الكردي خطأً قاتلاً بحق للقيادة التاريخية الكردية، ولمشروع الانفصال عن العراق.