محمد علي فرحات

نجحت حكومة العراق في تحرير معظم الأراضي التي احتلها «داعش» واستعبد سكانها، وكذلك في الحدّ من طموح مسعود بارزاني في سلخ إقليم كردستان (على رغم حقيقة تمسُّك الأكراد بحلم الاستقلال كما كانوا وكما سيبقون). هذا النجاح نفخ الروح في وطنية عراقية طالما تعرضت للنكسات منذ الاستقلال عن الانتداب البريطاني، مرة باسم الذوبان في عروبة طوباوية من المحيط إلى الخليج ومرة باسم طائفية معلنة، أو مضمرة بأقنعة علمانية.

لن تستيقظ الوطنية العراقية بسحر ساحر وإن كان اسمه حيدر العبادي. كل ما في الأمر أن المزاج الطائفي يتراجع لدى القواعد الشعبية وتتراجع معه أصوات زعامات كانت تستند إلى ترويج «أبدية» الصراع السنّي- الشيعي بعيداً من المصالح ومن عيش مشترك وعادات وتقاليد، أي ما تمكن تسميته «الثقافة المحلية أو الوطنية». هكذا يفتقد متابعو الإعلام العراقي اليوم تصريحات ضاجة لنائبي الرئيس، نوري المالكي وأسامة النجيفي، فليس لدى الرجلين ما يقولان في المدّ الوطني الجارف.

لقد تلقّت القومية والطائفية ضربة لمصلحة الوطنية، لكنها لا تعني انتصاراً لأن العراق يفتقد تجربة دولة عميقة، وحكامه لا يستندون عادة إلى خبرات سابقيهم، بقدر ما يبدأ كل فريق حاكم من الصفر، كأننا أمام انقلاب لا أمام حكومة جديدة.

يأمل محبو العراق باستمرار زخم المد الوطني حتى الانتخابات في الربيع المقبل، لكي يتحقق تراجع نسبة الطائفيين في البرلمان لمصلحة الوطنيين، ويتقلص وهج نجوم الطوائف الذين ازدادوا لمعاناً بعد الاحتلال الأميركي. وفي ذلك دفع للحكم الجامع في بغداد نحو تقليص التأثيرين الإيراني والتركي، والتعايش مع ما يتبقّى منهما من موقع الندّية وبواقعية سياسية تدرك أن الاستقلال التام لا مكان له في أيامنا، بل المطلوب الاعتراف بمصالح الجيران، خصوصاً إذا كانوا أقوياء، واعتبار المصلحة الوطنية العراقية معياراً لتحديد مقادير مصالح هؤلاء.

منذ سنة 2014، حدثت متغيّرات كبرى في العراق وفي سياسات طهران وأنقرة. ووصل الأمر في الأزمة التي أعقبت استفتاء كردستان إلى تعاون تركي- إيراني- أميركي لتتحقق غلبة حكومة بغداد على حكومة بارزاني. كان الحصار التركي شبه منجز، و «الحشد الشعبي» المدعوم من إيران حاضراً، وكذلك آلاف الجنود الأميركيين الذين نقلتهم قياداتهم من الموصل إلى أبواب كركوك للإشراف من بعد على تسليم المدينة للحكم المركزي. وحين سئل سياسي لبناني عارف بشؤون العراق عن سر التصريحات الرصينة والحاسمة للرئيس العبادي خلال أزمة الاستفتاء، أحال السائلين على مشهد افتراضي: مكتب العبادي في الوسط وإلى يمينه مكتب المستشار الأميركي وإلى اليسار مكتب المستشار الإيراني، وتصريح الرئيس ليس سوى صياغة موحدة لكلام المستشارَيْن.

دولة العراق الحديثة قلقة منذ انطلاقتها، وقد عجزت، على رغم الجهود الطيبة للنخبة، عن تكوين إدارة جامعة لأهل المدن والفلاحين والعشائر، وبذلك استمر التأثيران التركي والإيراني، بحكم الجغرافيا والتاريخ، يعرقلان تبلور الدولة ويشاركان الانتداب البريطاني في هذا الشأن. وقد عجزت الانقلابات العسكرية، بطبيعة الحال، في الخروج من هشاشة الدولة، بل فاقمتها وأرست ديكتاتوريات صغيرة وكبيرة حوّلت جموع الشعب إلى جنود أو أرقام، أو متهمين بانتماءات خارج الحدود.

والآن، بعد التجارب المرّة، أمام العراقيين طريق الوطنية الذي يحدّ من النزعات الطائفية، ويساعد بالتالي على تقليص النفوذين الإيراني والتركي، والأول هو الأكثر انخراطاً في حياة العراقيين وفي خلايا إداراتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية. وطريق الوطنية وحده يعزز الدولة الجامعة فتسترجع علاقتها الحيوية مع الداخل العربي، خصوصاً الخليج، ومع الدول الكبرى لمزيد من حضور دولي للعراق بقدراته البشرية والمادية.