محمد نور الدين

تنحى مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق بعد مسيرة حافلة بالمحطات والمواقف المثيرة. فجمع في شخصه المدافع عن القضية الكردية في العراق التي أوصلته إلى أن يكون أول رئيس للفيدرالية الكردية عندما أعلنت رسمياً وبشكل دائم في الدستور العراقي في عام 2005. وقد تشارك مع المرحوم جلال الطالباني رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني عبء تحمل النضال من أجل القضية. وقد أوصلت هذه القضية طالباني ليكون أول رئيس كردي للجمهورية العراقية في حدث استثنائي.


في أقل من شهر رحل الطالباني وتخلى البرزاني عن موقعه الرسمي لتفتح القضية الكردية ساحتها لوجوه جديدة تكمل مسيرتها.
وإذا كان طالباني أكثر انسجاماً مع نفسه وأقل تعرجاً في حياته ومواقفه السياسية، فإن البرزاني بمواقفه ركب المسالك الوعرة والمتعرجة فارتفع حيناً وتخبط أحياناً. وكانت بعض أخطائه قاتلة وأهمها وآخرها مسألة الاستفتاء على الانفصال في 25 سبتمبر/أيلول الماضي.
فالقضية الكردية لا تخص قائداً أو شخصاً بعينه سواء في العراق أو تركيا أو سوريا أو إيران. ومن يحاول التصدي للتحديات التي تواجه الأكراد أينما كانوا يجب أن يتحلى بالشجاعة والحكمة في الوقت نفسه. فالشجاعة عندما تصبح تجرؤاً أو تهوراً أو حسابات غير عقلانية تقلب السحر على الساحر وتلحق الضرر بالقضية بدل أن تفيدها.
وكان الأكراد على مدى القرن العشرين، لا سيما في العراق قد حققوا في ارتقاء مستمر ما كان يحلم به أي كردي من تعبير كامل عن الهوية الثقافية وصولاً إلى إقامة كيانية سياسية فيدرالية تكاد تقارب الدولة المستقلة. وقد أظهرت تطورات ما بعد الاستفتاء وتحرك الجيش بدعم إقليمي نحو كركوك وغيرها والمطالب المختلفة مثل تسليم المعابر البرية والجوية إلى بغداد أن الأكراد كانوا يملكون ويسيطرون على امتيازات تتخطى بكثير ما كان مرسوماً في الدستور والقوانين.
لقد حقق الأكراد ضمن الوطن العراقي تحديداً هدفاً يكاد يعادل الحلم. لا شك أن كل قومية تسعى إلى الاستقلال الناجز وسيادة كاملة. لكن يسجل للعراقيين أنهم قبلوا وهذا ليس منّة بأن يتقاسموا المصالح والمشاعر بين مكوناتهم. ومن أبرزها التوافق على أن يكون للأكراد في إقليم شمالي العراق فيدراليتهم.
كان يجدر بالقادة الأكراد أن يواصلوا السعي وراء ما تبقى من أهداف لهم بالتفاوض مع شركائهم في الوطن. ومن دون هذا التفاهم لا يمكن تحقيق أي هدف.
وبتقديرنا أن الدعوة للاستفتاء كانت في غير أوانها وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى الصعوبات التي تعرقل تحقيق الهدف من الاستفتاء.
وإذا لم نتوقف عند مواقف القوى الإقليمية المعارضة بحدّة للاستفتاء كان يكفي أن ننظر إلى المواقف المحلية ونرى كيف أن كافة المكونات العراقية الأخرى أعلنت معارضتها للاستفتاء. لكن البرزاني ضرب بعرض الحائط مواقف الشركاء الآخرين في الوطن. وهذا كان يدخل في باب المواقف الانتحارية.
كذلك فإن الدعم الضمني للولايات المتحدة للاستفتاء لم يترجم دعماً عملياً بعد الاستفتاء، لا سيما في مسألة دخول الجيش العراقي إلى كركوك. وهذا كان من التقديرات الخاطئة للبرزاني الذي وصف الموقف الأمريكي بالخيانة. في حين أنه كان على البرزاني أن يقدّر أن واشنطن لا تؤتمن على دعم وأنها يمكن أن تبيع أقرب من يمكن أن يوصفوا بالأصدقاء. بل هي كانت قد خذلت الأكراد في العراق أكثر من مرة. ألم تكن الإدارة الأمريكية من أكثر المرحبين بقرار البرزاني التنحي بعدما دفعته إلى فخ الاستفتاء؟.
ولا تستثنى دولة العدو «إسرائيل» من هذا التوصيف. فمتى عملت «إسرائيل» يوماً لمصالح غيرها ؟ وألا يدرك البرزاني أن اللجوء إلى العدو هو عين الخسارة والخيانة لقضية شعبه؟ وماذا فعلت له «إسرائيل» بعدما فشل الاستفتاء وانسحب البيشمركه مكرهين من كركوك ومناطق أخرى كثيرة متنازع عليها؟
ألم يدرك أن الدول الإقليمية كلها أعلنت معارضتها للاستفتاء حتى إذا أجراه كانت المحصلة تعاوناً إيرانياً- تركياً إضافة إلى حكومة بغداد، أسقط الاستفتاء وأخذ ما كان فائضاً للأكراد؟
ألم يدرك أن التفرد بالحكم دون المشاركة مع المكونات الكردية السياسية الأخرى ستدفع بهذه لاغتنام الفرصة والانقضاض على سلطته؟ وأن يدفع هو في النهاية ثمن الفشل؟
إذا كان لانسحاب البرزاني، مكرهاً في ضوء الهزيمة، من الحياة السياسية من عبرة فهي أن يتصرف خلفاؤه بعين الحكمة والواقعية بما يخدم القضية الكردية في العمق.