67 كلمة كُتِبَت قبل مئة سنة غيّرت خريطة الشرق الأوسط

سليم نصار

قبل شهر تقريباً نشرت صحيفة «التايمز» اللندنية تعليقاً كتبه جاكوب روتشيلد، نسيب اللورد روتشيلد، يمتدح فيه منجزات كل الشخصيات التاريخية التي سعت إلى ما عُرِف بـ «وعد بلفور»، علماً أن كلمة Declaration لا تعني الوعد أو التعهد بمقدار ما تعني حرفياً «تصريح» أو «بيان.» ويبدو أن صحيفة «التايمز»، التي ساهمت في تعبيد الطريق أمام انتشار هذه الوثيقة، هي التي أعطت الانطباع بأن محتوى النص المؤلف من 67 كلمة، ينطوي على هذا المعنى الغامض.
وقبل الانتقال إلى شرح خطورة هذا العمل الذي قامت به حكومة الملك البريطاني قبل مئة سنة، لا بد من مراجعة الدور الإعلامي المؤثر الذي أدته صحيفة «التايمز»، وهو دور بالغ الأهمية تبنته في حينه أهم وسيلة إعلامية في مطلع القرن الماضي، أي في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1917.
صبيحة ذلك اليوم، صدرت «التايمز» بعنوان غير موضوعي في إيحاءاته، يقول: «فلسطين... لليهود». وبعد نشر النص الكامل للكتاب الذي أرسله وزير الخارجية أرثر بلفور إلى البارون الثاني روتشيلد، خصص مدير تحرير القسم الخارجي هنري ستيد، صفحة كاملة لرسائل القراء. وهو يزعم أنه كان يتلقى كل صباح آلاف الرسائل من قراء يهود يعربون عن تأييدهم لهذه الخطوة السياسية غير المسبوقة. وقد شجع هذا التجاوب مالك الصحيفة اللورد نورثكلف على دعم فكرة مدير التحرير. وكانت غالبية تلك الرسائل توجه شكرها إلى أفراد المجموعة الصهيونية وفي طليعتهم: اللورد روتشيلد ورئيس الوزراء لويد جورج واللورد بلفور وحاييم وايزمان.
مقابل رسائل التأييد، ارتفع صوت يهودي معارض، هو صوت أدوين مونتاغو، وزير شؤون الهند. وقد حذر في الكتاب الذي وجهه إلى رئيس الوزراء، من ازدياد العداء لليهود.
في أرشيف «التايمز» رسالة كتبها مدير التحرير هنري ستيد يحلل فيها النتائج المتوخاة من اتخاذ موقف مؤيد لليهود وللحركة الصهيونية بالذات. وهو يشرح هذا الموقف بضمان توقعات تستند الى عامل جغرافي واسع. ذلك أن بريطانيا كانت متورطة في حرب ضد ألمانيا، الأمر الذي دفعها إلى اعتماد موقف يلقى الترحيب في روسيا والولايات المتحدة. والسبب أن الحركة الصهيونية التي وجدت الخلاص من حكم قياصرة روسيا، الذين اضطهدوا اليهود، بالدعوة إلى انتقاء وطن قومي في فلسطين، كانت متخوفة من الإغراءات التي قدمها لهم لينين الماركسي. ويبدو أنه كان يريد استمالتهم من طريق الإيحاء بأنه سيوفر لهم الأمن والأمان بواسطة اليهودي تروتسكي وصديقته ومساعدته ماريا يوفا، التي تولت منصباً رفيعاً في الحركة الصهيونية الروسية.
إضافة إلى هذا، حرص لينين على تقديم وعد للجالية اليهودية يتلخص بالتالي: «منح المساواة والعدالة الاجتماعية لليهود، وذلك من خلال احتوائهم في مجتمع جديد تنعدم فيه مشاعر الطبقية». ولكن هذه الإغراءات كلها، لم تثنِ حتى اليهود الماركسيين الذين هربوا من روسيا باتجاه فلسطين. وقد حملوا معهم نظام «الكيبوتز» الذي طبقوه في المستعمرات التي ساعدهم الإنكليز على استلابها. ويبدو أن استكمال المؤامرة كان يحتاج إلى هربرت صموئيل الذي عيّنته لندن مندوباً سامياً في فلسطين. والثابت أن بلفور هو الذي اختاره لهذا المنصب بغرض تشجيع يهود روسيا على المغادرة، بعد إقناعهم بأن بريطانيا تملك مفتاح الحل لأزمة التيه التي حاصرتهم طوال مئات السنوات.
إضافة إلى هذه المعطيات، فإن إقحام اسم اللورد روتشيلد في الرسالة كان الغرض منه استغلال علاقات عائلة روتشيلد بأثرياء اليهود في نيويورك على أمل بتغيير سياسة الولايات المتحدة من الحرب الدائرة في أوروبا.
بين أهم العناصر المؤثرة في مختلف المراحل التي شهدت تطور «إعلان بلفور» كان حاييم وايزمان الذي لجأ إلى لندن هرباً من قمع روسيا القيصرية. وتكمن أهمية وايزمان في المركبات التي ابتكرها في مختبر الكيماويات. لهذا استثمرت بريطانيا اختراعه لمادة «الاسيتون» التي تستعملها النساء لإزالة صباغ الأظافر. ومن هذه المادة نجحت الحربية البريطانية في صنع قنابل كان لها أكبر الأثر في ربح الحرب ضد الدفاعات الألمانية.
ولد وايزمان في قرية تابعة لبيلاروسيا تدعى «موتال» لتاجر أخشاب. وكان الثالث بين 15 ولداً. وبعد أن أنهى دراساته الثانوية، سافر حاييم إلى ألمانيا سنة 1892، والتحق بجامعة متخصصة في علوم الكيمياء. ثم انتقل بعد سنتين الى سويسرا للحصول على شهادة عمل في هذا الحقل. وأثناء وجوده في سويسرا حضر المؤتمر الصهيوني الثاني الذي عُقد في بازل منتصف 1898.
سنة 1904، انتقل وايزمان الى بريطانيا حيث التحق بجامعة مانشستر كمحاضر في مادة الكيمياء. وفي سنة 1910 حصل على الجنسية الإنكليزية التي احتفظ بها حتى سنة 1948، أي إلى حين انتخابه أول رئيس لدولة إسرائيل.
أثناء وجوده في جامعة مانشستر، تولى وايزمان رئاسة الحركة الصهيونية في بريطانيا. وصدف خلال تلك المرحلة أن تعرف على أرثر بلفور، رئيس الوزراء والنائب عن حزب المحافظين. وتقول الصحف إن بلفور كان متردداً في اختيار فلسطين وطناً قومياً لليهود، وذلك بسبب ازدياد عدد النواب الذين يفضلون أوغندا. والثابت أن هذا البرنامج بدأ يشهد موجة من اليهود الأوروبيين الذين باشروا في بناء مستوطنات ما زال بعضها قائماً حتى اليوم. ويتحدث وايزمان في مذكراته عن حوار دار بينه وبين صديقه بلفور عن هذا الموضوع، فيقول إنه سأله: هل تتنازل عن السكن في لندن، لكي تعيش في ساسكتشوان؟ وعلى الفور أجاب بلفور بالنفي.
عندها استغل وايزمان جوابه ليحرجه بالادعاء: نحن كنا نقطن في أورشليم عندما كانت لندن أرضاً مهجورة!
يوم الخميس الماضي، وصل إلى لندن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو للمشاركة في احتفالات الذكرى المئوية لإعلان اللورد أرثر بلفور الذي مهّد الطريق أمام إقامة دولة إسرائيل.
واستغلت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي هذه المناسبة لتجري محادثات مع نظيرها الإسرائيلي حول مستقبل القضية، وما إذا كانت الفرصة مواتية لاستئناف المفاوضات المجمدة. وشاركت ماي في مأدبة عشاء بحضور رودريك بلفور أحد أقارب اللورد أرثر بلفور.
حول هذه المخالفة التاريخية، صرح رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله بقوله: «أصبح لزاماً على المجتمع الدولي- ونحن نقترب من المئوية الأولى لوعد بلفور المشؤوم- إنهاء الظلم التاريخي الذي لحق بشعبنا، ونطالب المملكة المتحدة بتحمل مسؤوليتها، والاعتذار من الشعب الفلسطيني».
وبدلاً من الاعتذار باسم حزب المحافظين الذي يُعتبر مسؤولاً عن الرسالة المشؤومة، فقد حذرت تيريزا ماي من معاداة الساميّة ومن تجاهل حق إسرائيل في الوجود. ولكنها استدركت لتزيد على التصريح السابق عبارة «مورفينية» الوقع، خلاصتها: إن موقف بريطانيا المؤيد لحل الدولتين، يتلخص بالتالي... دولة إسرائيلية مزدهرة وآمنة إلى جانب دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للبقاء.
بعد انقضاء مئة سنة، الكل يسأل كيف تحققت رؤية ثيودور هرتزل... وكيف قررت لجنة الانتداب في مؤتمر سان ريمو تسهيل مقررات لويد جورج ووزير المستوطنات اللورد بلفور!
وكان في طليعة المتسائلين الرئيس جون كينيدي الذي كتب إلى جمال عبدالناصر، يستوضحه عن حقيقة وعد بلفور. وأجابه عبدالناصر بعبارة واحدة مفادها: لقد أعطى مَنْ لا يملك... لمَنْ لا يستحق!