محمد كركوتي

"بريكست مثال دقيق لأمة أطلقت النار على نفسها في وجهها"
هيو جرانت ممثل بريطاني عالمي


"الردح" السياسي ليس حكرا على أمة أو أمم. هو سلوك يستخدمه الغرب والشرق، وإن كان هذا الأخير أكثر استخداما له. ووفق هذا الاستنتاج، كان طبيعيا أن تدخل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بينها وبين هذا الاتحاد مرحلة "الردح" السياسي، ولا بأس ببعض "الردح" الفكاهي الذي يسبب الغيظ حتى أكثر من السياسي. اللافت أكثر، أن "الردح" لم يعد قاصرا على البريطانيين والأوروبيين، بل شمل أيضا البريطانيين أنفسهم. وهذا في المعيار السياسي مصيبة، خصوصا عندما تكون البلاد في مرحلة مفاوضات شاقة وغير واضحة المعالم، بل دون ضمانات حقيقية أن تصل إلى نهاية محددة. فلا عجب، عندما يطالب الاتحاد الأوروبي المملكة المتحدة أن تكون متحدة في المفاوضات معه، وأن تتوقف عن التلاسن الداخلي، لأن ذلك ينعكس سلبا على مفاوضات مضطربة أصلا.
خمس جولات من المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد، استهلكت ستة أشهر تقريبا من الفترة الزمنية المحددة لها بعامين كحد أقصى. هذه الجولات لم تحقق شيئا. الاتهامات متبادلة، والأهداف تبدو في الوقت الراهن متعارضة. الأوروبيون لا يبدو أنهم في عجلة من أمرهم، على عكس البريطانيين الذين يريدون تقدما واضحا ملموسا، ليس فقط من أجل إتمام الخروج النهائي، بل أيضا كي تستطيع الحكومة البريطانية المضطربة تقديم شيء ما للبريطانيين أنفسهم. فالساحة الشعبية في المملكة المتحدة بدأت تميل بعض الشيء للاستنتاج الذي توصل إليه محبو الاتحاد الأوروبي، أن قرار الخروج كان خطأ. يضاف إلى ذلك، أن تيريزا ماي رئيسة الوزراء تعمق ضعفها على الساحة الداخلية يوما بعد يوم، ليس فقط جراء الارتباك في إدارة المفاوضات، بل أيضا من جهة "حروب" شبه مستترة داخل الحكومة نفسها!
هناك ما لا يقل عن 50 تقريرا سريا حتى الآن تحتفظ بها الحكومة حول الخروج البريطاني "بريكست"، تطالب تيارات سياسية قوية بنشرها على الملأ، في حين ترفض الحكومة الإقدام على هذه الخطوة. وهذا الرفض يعزز موقف المعسكر المخلص للاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة، الذي يقول منذ البداية إن الكارثة ستكون كبيرة على بريطانيا جراء الخروج، وإن من حق البريطانيين كلهم الاطلاع على الحقائق كما هي، ناهيك عن ترويجهم لضرورة عرض نتائج المفاوضات على استفتاء عام جديد. تيريزا ماي يبدو أنها لا تملك إلا الجملة الشهيرة التي ترددها في كل مناسبة "بريكست يعني بريسكت"، في محاولة باتت مملة للتأكيد أنها تحترم اختيار البريطانيين للخروج بدلا من البقاء. ولأن الضغوط باتت قوية عليها، أسرعت للإعلان أخيرا أن الاتفاق مع الاتحاد سيعرض للتصويت على مجلس العموم.
ولكن ما مصير التقارير السرية التي ترفض الإفراج عنها؟ سيظل مجهولا حتى تضطر إلى الرضوخ، لاسيما أنها ليست في موقف قوي يمكنها من التمسك بموقفها هذا إلى النهاية. فإذا كانت تحترم رغبة أغلبية الشعب البريطاني في الخروج، فإن عليها "بحسب المعسكر المضاد" أن تضع كل شيء على الطاولة. فهذا هو السلوك الديمقراطي الحقيقي. ورفض نشر التقارير التي أعدتها مجموعة من الجهات المختصة المستقلة، يفتح مجالا واسعا أمام من يرغب في التشكيك في "بريكست"، لدعم وجهة نظره بكارثية الانسحاب. معنى ذلك أن هناك شيئا خطيرا بالفعل تريد الحكومة التعتيم عليه خلال ما تبقى من زمن للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. وأيا كان محتوى التقارير المشار إليها، فقد أضافت هما جديدا لحكومة يمكن أن تنهار في أي لحظة.
الانهيار المشار إليه يقلق بالفعل المفوضية الأوروبية. فهي لا تعرف كيف ستتعامل مع الفوضى السياسية على الساحة البريطانية إذا ما حدث ذلك الانهيار. صحيح أن الاتحاد الأوروبي في موقف قوي، لكن الصحيح أيضا أنه بحاجة إلى جهة قوية للتفاوض معها. جهة يمكنها أن تسوق أي اتفاق معه على الساحة المحلية. جهة تستطيع أن تبرم اتفاقات جديدة بين بريطانيا الخارجة من الاتحاد وهذا الأخير. وهذه النقطة أيضا محورية، بل تتصدر كل المحاور. إنها تتعلق بمستقبل العلاقات بعد الانسحاب، من اتفاقات تجارية ومالية واجتماعية وغير ذلك. ثبت بالفعل أن "الردح" بين الطرفين يعطل مسيرة التفاوض، أو يطرح محاور جديدة لا يمكن أن تتحملها مثل هذه المفاوضات.
ضحك الأوروبيون كثيرا على ما أعلنته ماي أن "الكرة باتت في الملعب الأوروبي". وردوا أن العملية ليست بالضبط لعبة كرة. لماذا؟ لأن هناك تسلسلا واضحا للمفاوضات، وحتى الآن لم يتم إيجاد أي حل للخطوة الأولى. ما هي؟ إنها إجراءات "الطلاق". المصيبة، أن الأوروبيين بدأوا بالفعل يتحدثون عن "معجزات" من أجل أن تتقدم المفاوضات، ما يعني أن شيئا لم يتحقق حتى اليوم، وأن الأيام المقبلة ستكون مليئة بكل شيء إلا بالنتائج. سيكون "الردح" أعلى بين الجانبين. لكن الخطورة الأكبر في "الردح" الوطني البريطاني المحلي.