يوسف مكي

لم يكن وعد بلفور وليد لحظة في التاريخ، بل كان نتاجاً لمسار طويل، بدأ متزامنا مع زحف الاستعمار التقليدي على المنطقة العربية. وكانت المنطقة محط أنظار الغزاة، منذ العصر القديم. فقد كانت، ولا تزال، مكان التقاء القارات القديمة الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا. وتضاعفت أهميتها بعد شق قناة السويس التي ربطت مائياً بين البحرين الأحمر والمتوسط. ونكاد نجزم أن هذه البقعة من الأرض تعرضت لأقدام كل الغزاة، من العالم القديم والحديث، الذين زحفوا إلى هذا الجزء. 
لم يكن التفكير في تقاسم تركة الرجل المريض بالأستانة، قد بدأ مع اشتعال الحرب العالمية الأولى، بل قبل ذلك بكثير. ولم تكن المطالبة باستقلال الوطن العربي، عن السلطنة العثمانية، بداية المواجهة معها، بل كان الحلقة الأخيرة فيها، حيث سبق أن استقلت معظم دول البلقان عن السلطنة، كما خسرت كثيراً من ممتلكاتها. ولذلك ينبغي وضع وعد بلفور في سياقه التاريخي الهادف إلى إحكام القبضة الاستعمارية على المنطقة، من خلال تأسيس كيان استيطاني غربي، في منطقة الوصل بين القارات القديمة الثلاث.
ولم يكن للصهاينة، أن يطرحوا مشروع تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، بمؤتمر بازل، في 29 آب 1897م، لو لم يكونوا واثقين من تأييد القوى الكبرى لمشروعهم. وقد بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تنفيذاً لمقررات بازل، قبل وعد بلفور، وأيضاً قبل اندلاع الحرب الكونية الأولى بكثير. ولذلك يعتبر وعد بلفور تعبيراً طبيعياً عن التماهي التام، بين المشروعين الإمبريالي و»الاسرائيلي». 
وقد كان وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، بعد سقوط السلطنة العثمانية، إجراء ضرورياً، لتسهيل عملية التجهيز لتأسيس الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين. فلم يكن لليهود أن يندفعوا في موضوع الهجرة واكتساب الأراضي، من غير الدعم البريطاني. 
وليس صحيحاً أنهم قرروا إنهاء الانتداب عن فلسطين، بسبب أوضاعهم الاقتصادية، فقد بقوا جاثمين على الأرض العربية في مناطق أخرى، كالعراق ومصر والسودان واليمن الجنوبي، وبلدان الخليج العربي، رغم تدهور وضعهم الاقتصادي بعد الحرب. واضطر كثير من هذه البلدان للمقاومة المسلحة، في بعضها، وللانتفاضات الشعبية المتتالية في بلدان أخرى، لإجبار البريطانيين على الرحيل، وللحصول على الاستقلال السياسي لتلك البلدان.
لقد أدرك البريطانيون أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين قد تضاعفت، وأنه بات بإمكان العصابات الصهيونية تأسيس الوطن القومي الموعود، ولذلك قرروا الانسحاب من فلسطين لتمكين الصهاينة من تأسيس دولة الاحتلال.
بالتأكيد، لم يكن وعد بلفور قدراً مقدراً، على العرب، لولا هشاشة مقاومتهم للمشروع الإمبريالي في عموم المنطقة. ذلك لا يعني أن المنطقة لم تشهد مواجهات ملحمية بين الشعب المحتل، وقوى الاحتلال، لكن هذه المواجهات رغم نجاحها في انتزاع الاستقلال السياسي، كما هو الحال، في العراق وسوريا ومصر وليبيا والجزائر وتونس والسودان والمغرب واليمن الجنوبي. لكن هذا النضال، افتقر إلى عنصرين رئيسيين، لازمين لإلحاق الهزيمة النهائية بالمشروع «الاسرائيلي».
العنصر الأول، أن صيغة مواجهة الاحتلال، جاءت وفقاً للخرائط التي رسمها المستعمر، ولم تكن هناك جبهة مواجهة موحدة للاحتلال. فكانت النتيجة، أنه حين تمكنت هذه البلدان من إنجاز استقلالها، فإن خرائطها، باتت متماهية ورهينة لاتفاقية سايكس- بيكو. ومن هنا باتت لهذه الدول، أولوياتها في صيانة أمنها الوطن، وتأمين استحقاقات مواطنيها، وفقاً لخرائط القسمة، التي هندس لها المحتل، صانع وعد بلفور. 
يضاف إلى ذلك، أن خرائط الكيانات الوطنية، التي هندس لها المحتل، قبل رحيله، جاءت في الأغلب ملغومة، بحيث حملت في رحمها مشاريع حروب بين العرب أنفسهم، بدلاً من توجيه طاقاتهم للعدو «الاسرائيلي»، الذي هو بطبيعة المواجهة والتحدي عدو العرب جميعاً. العنصر الآخر، أن العرب جميعاً، بسبب طبيعة التحدي الاستعماري، وما سبقه، من احتلال عثماني، عانوا هشاشة هياكلهم الاجتماعية، وتعطل النمو الاقتصادي في بلدانهم. كما عانوا هيمنة بقايا إقطاع عاجز عن تحدي الاقتصاد الفتي الكاسح، الوافد من الغرب. لقد خلق هذا الوضع حالة من المراوحة، بين افتتان قوي بالمحتل، وبين تحدي الوجود. كما خلق حالة أخرى من العجز عن الربط، بين المشروعين «الاسرائيلي» والإمبريالي، رغم أن هذه العلاقة، كانت واضحة، منذ البداية للعيان، وضوح الشمس.
ولا شك في أن هذا الافتتان خلق حالة مروعة من العجز، عطلت من قيام الدولة الحديثة في الوطن العربي، وأسهمت في تشكيل كيانات مشوهة، وعجز عن الاضطلاع بمسؤولياتها الوطنية، فضلاً عن مواجهة المشروع «الاسرائيلي»، وإلحاق الهزيمة بوعد بلفور. 
وفي ظل هذا الوضع العاجز، كان من الطبيعي أن تنتهي معظم معاركنا مع العدو إلى ما انتهت إليه. لقد كانت سباحة ضد التيار، وغيبت الرفض بين طبيعة المشروع الاستيطاني «الاسرائيلي»، وبين المشروع الكوني للقوى الكبرى، في الهيمنة على المنطقة. وللأسف، فإن هذا الغياب تسلل للمقاومة الفلسطينية المعاصرة، حين تداخلت الأوهام والثقافات الدينية المتكلسة، وتم الفرز بين مشاريع الهيمنة الكونية، وبين المشروع الاستيطاني «الاسرائيلي». وكان ذلك، من أهم أسباب إخفاقات المقاومة الفلسطينية، على اختلاف مساربها. 
فكانت النتيجة أن القوى التي صنعت وعد بلفور منذ البداية، ظلت تغذيه إلى ما لا نهاية، وبتنا نتعامل معها كقوى مستقلة عن المشروع «الاسرائيلي»، رغم أنها صانعته وراعيته، وسر بقائه، حتى هذه اللحظة. ولن يتم إلحاق الهزيمة بوعد بلفور، إلا بوضعه في سياقه التاريخي، وقراءة استمراريته، في سياق التحولات الكونية، منذ تأسيسه، حتى هذه اللحظة.