وسام سعادة


حتى الساعة، ومنذ سنوات، كان يمكن الحديث عن «حرب أهلية عربية». فمفهوم الحرب الأهلية ينطبق بوتائر وأنماط مختلفة على سلّة من البلدان العربية منذ سنوات باتت بالإجمال طويلة (سوريا، ليبيا، العراق، اليمن)، وشبحها يقض مضاجع بلدان أخرى،

أو له فيها «أيّام». تتداخل هذه الحروب الأهلية مع أنماط مختلفة أيضاً من التدخّل فيها، أبرزها التدخّل الإيراني والموالي لإيران، في العراق وسوريا واليمن، والتحالف التي تقوده الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم «داعش»، والتدخل الروسي في سوريا إلى جانب النظام، وقد دفع وصول مقاتلي الجماعة الحوثية المدعومة من إيران، والمواكبة من «حزب الله»، إلى مشارف عدن، من بعد سيطرتها بالتحالف مع قوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح على صنعاء، إلى قيام تحالف عربي تقوده المملكة العربية السعودية، والحرب متواصلة في جنوب غرب الجزيرة العربية منذ ثلاث سنوات، وفي بلد كاليمن يعيش منذ نهاية القرن التاسع عشر في سلسلة من الحروب والحروب الأهلية المتواصلة.

جاء الإتفاق النووي بين ايران والغرب في عهد باراك أوباما ليحوّل تطوّراً كان من المفترض أن يضعّف أسباب التوتّر والنزاعات في الشرق الأوسط إلى عامل تصعيديّ لكل الشحنات التصادمية. فإدارة أوباما لم تكترث لهواجس المجموعة الخليجية، بل المجموعة العربية إلى حد كبير، فيما يتعلّق بكيفية الربط بين مسار انفراجي تدريجيّ بين الغرب وايران وبين الحؤول دون تسخير ايران هذا المسار لإطلاق العنان لـ»مدّ» هيمنيّ غير مسبوق بهذا المدى منذ فتوحات نادر شاه أفشار في النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، من كركوك إلى دلهي. النتائج الوخيمة لسلوك هذه الإدارة في أعقاب الهجمة الكيماوية للنظام السوري على الغوطتين، واكتفائها بطلب تفكيك ترسانته الكيماوية في مقابل السماح له بكل ما دون ذلك من أسلحة ضدّ الفصائل المقاتلة والمجموعات السكانية على حد سواء، فاقم الأمور أكثر. أما تصعيد هذه الإدارة ضد روسيا، بعد ضم الأخيرة لشبه جزيرة القرم ودعمها لكيانات انفصالية في الشرق الأوكرانيّ، مغتاظة من اسقاط نظام الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانكوفيتش، فأدّى إلى تصلّب روسيّ في كل الملفات التي لروسيا موطئ قدم فيها، ثم لتدخّل روسي واسع في سوريا، قلب الوضع من حال إلى حال، لتجد روسيا نفسها اليوم ما بين مساعٍ ترعاها للخروج بـ «تسوية سياسية» يهمّها أن تبشّر بها كنموذج لـ «السلام الروسيّ» في العالم، وبين تحالف صعب بينها وبين ايران على الأرض السوريّة، ايران التي ليست تطرح أيّ نوع من «السلام الإيرانيّ» في أيّ من البلدان العربية التي تعمل على الهيمنة عليها، خصوصاً من خلال استثمارها في المسألة المذهبية، بل تريد لهذه البلدان أن تبقى بمثابة «ورشة إحترابية دائمة».

هل ثمّة اليوم إرهاصات لواقع إقليميّ جديد؟ 

ثمّة شعور أوّلاً عند ايران وحلفائها بـ «الطاووسية»، وبأنّ الشرق العربي برمّته آيل إلى الإنضواء تحت هيمنة «الجمهورية الإسلاميّة». ثمّة مسألة كردية تحمل الأتراك على التنسيق مع الإيرانيين حيالها، في مقابل تناقضهم معهم في الوضع السوريّ. ثمّة تقارب تركي - ايراني آخر يتعلّق بالوضع في قطر. ثمّة توسيع لدائرة الإستهدافات من جانب حلفاء ايران في اليمن، لتوجيه صواريخ باليستية في العمق السعودي، بل بإتجاه الرياض نفسها. ووسط كلّ هذه البراكين، ثمّة «حزب الله». 

لم يكتف هذا الحزب بالتسويات المتطبعة إلى حد كبير مع وقائعه التغلّبية في الداخل اللبنانيّ، بل حوّل هذه التسويات، وخصوصاً تلك «الرئاسية» التي أفضت إلى وضع حدّ للفراغ في السدّة الأولى بالجمهورية، إلى منصّة تدخّلية ليس فقط في سوريا، بل منها حتى اليمن، إلى البحرين، إلى حملة تحريضية، بل هجائية متواصلة، ضدّ السعودية. في الماضي، كان الحزب يتلطى وراء التفاهمات القائمة في المنطقة، بما في ذلك العلاقات السابقة بين ايران والسعودية، وبين السعودية وسوريا، من أجل عزل مشكلته مع أخصامه الداخليين، ومحاصرة هؤلاء بحجّة أنّه ليس لهم من يقف إلى جانبهم في الإقليم على غرار وقوف ايران إلى جانب حزبها في لبنان. ومع انقلاب الحال الإقليمية، صار «حزب الله» يتلطى وراء التسويات اللبنانية الهشّة، من «صلح الدوحة» إلى التسوية «الرئاسية»، ليصوّب من ورائها على بلدان عربية فيها مصالح وأرزاق لمئات الآلاف من اللبنانيين، ويختلف نظامها السياسي والإجتماعيّ عن القائم في لبنان، من دون أن يخلق هذا تاريخياً مشكلة لديها، ولا مشكلة لدى اللبنانيين (عندما كان الشارع الإسلامي في لبنان أقرب إلى اليسار، كان اليمين المسيحي فيه أقرب إلى اليمين العربيّ).

و»حزب الله» طرح نفسه في الداخل منذ رحيل الوصاية السورية كمشروع وراثة لها من حيث هي وراثة. نجح من حيث هو مشروع غلبة فئوية ولم يفلح من حيث هو مشروع وصاية إلا في الأشهر الماضية، خصوصاً بعد عراضة «التحرير الثاني». أمّا أكثر مضمار خضوعاً لوصايته قبل ذلك وبعده، فكانت السياسة الخارجية للبنان، ظهرت أكثر فأكثر في صف ايران في عزّ التناقض بين الأخيرة وبين بلدان الخليج.

هذا هو إلى حد كبير السياق «المحرج» فعلاً للوضع اللبنانيّ. من ناحية الناس لا تريد أن يتمدد الحريق الإقليمي إلى هذا البلد، ولا تزال تجد فيه بقعة للحرية مضيئة في هذا الشرق، لكن الناس لا يمكنها أن تستمرّ في دفع أكلاف «طاووسية» ايران وعدم استعداد «حزب الله» لأخذ مسافة بالحدّ الأدنى عنها، بل يذهب أبعد منها حيث ذهبت، كما أنّ السياسة الخارجية اللبنانية لم تقم بأي جهد حقيقيّ لحدّ أدنى من التفهّم لمآلات النزاع على ضفتي الخليج وفي شبه الجزيرة العربية، بين إيران وحلفائها من جهة، والسعودية وحلفائها من جهة ثانية. 

اليوم، الوضع الإقليمي ملبّد بغيوم لا يدري أحد حتى الساعة ما الذي تحمله أو تخبئه بالتحديد. لكنها غيوم كثيفة. لم يعد من الممكن تجنيب لبنان الكؤوس المرّة من دون مناقشة جديّة للمشكلة الأساسية: كيف لا نجعل التسوية الداخلية، من فوق ما هي مبتورة، مطيّة للمغامرات في الإقليم؟ وكيف، في المقابل، نعيد لمفهوم السيادة في هذا البلد أصالته وحيويته، بعد أن شُوّه كثيراً، وأخذ منه كلّ فريق سهماً، في حين أنّ السيادة يفترض أن تكون مفهوماً متكاملاً، من جميع الجهات؟